من أصول التوحيد
قال تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إليه مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285].
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 136].
وقال الله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ [البقرة: 177].
قال ابن كثير: "إنما البر هو طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره.
الإيمان: التصديق، والله تعالى المؤمن؛ لأنه آمن عباده من أن يظلمهم، وأصل آمن أأمن بهمزتين، لينت الثانية، والأمن: ضد الخوف، والأَمَنة بالتحريك: الأمن، ومنه قوله - عز وجل -: ﴿ أَمَنَةً نُعَاسًا ﴾ [آل عمران: 154]، والأَمَنة أيضًا: الذي يثقُ بكل أحد، وكذلك الأُمَنَة، وأمِنْتُه على كذا وائتَمنتُه بمعنًى، وقُرِئ ﴿ مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ ﴾ [يوسف: 11] بين الإدغام وبين الإظهار، قال الأخفش: والإدغام أحسن، وتقول: اؤتمن فلان - على ما لم يُسم فاعله - واستأمن إليه؛ أي: دخل في أمانِه، وقوله تعالى: ﴿ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾ [التين: 3]، قال الأخفش: يريد الآمن، وهو من الأمن، قال: وقد يقال: الأمينُ المأمونُ.
وقوله تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، وقوله: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2]، وكقوله: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [الأعلى: 1 - 3]؛ أي: قدر قدرًا، وهدى الخلائق إليه؛ ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمةُ السنة على إثبات قدَر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل برئها، وردُّوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات، على الفرقة القدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة.
قال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان الثوري، عن زياد بن إسماعيل السهمي، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت: ﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 48، 49]؛ وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجه، من حديث وكيع، عن سفيان الثوري، به.
عن عمر رضي الله تعالى عنه أيضًا قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذاتَ يومٍ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتَيْه، ووضع كفَّيْه على فخِذَيْه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً))، قال: صدقت، فعجبْنا له يسأله ويُصدِّقه، قال: فأخبِرْني عن الإيمان، قال: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره))، قال: صدقت، قال: فأخبِرْني عن الإحسان، قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، قال: فأخبِرْني عن الساعة، قال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل))، قال: فأخبِرْني عن أماراتِها، قال: ((أن تلِدَ الأَمَةُ ربَّتها، وأن ترى الحفاةَ العراةَ العالةَ رِعاءَ الشاءِ يتطاولون في البنيانِ))، ثم انطلق فلبثتُ مليًّا، ثم قال: ((يا عمر، أتدري مَن السائل؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم))؛ رواه مسلم.
فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحدٌ أحد، فرد صمد، لا إله غيره، ولا رب سواه، وهو الإله القادر عليهم، القاهر لهم، الحكيم، العليم بهم باطنًا وظاهرًا، يعلم خائنةَ الأعين وما تخفي الصدور، الرؤوف الرحيم، الرزاق الكريم، فلا يعبدون ربًّا غيره، ولا يتضرَّعون بالدعاء إلى أحدٍ من دونه، ولا يلجؤون في الشدائد إلا إليه طلبًا للنجاة والرحمة.
هم يُصدِّقون بجميع الأنبياء والمرسلين، وبجميع الكتب التي أُنزِلت من السماء عليهم، ولا يُفرِّقون بين أحد من رسله فلا يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون بالبعض الآخر، بل يؤمنون بالجميع كما جاء في كتاب الله جل وعلا، ويُنْزِلون الجميع منازلَهم التي ذكرها الله - جل وعلا - في كتابه، والرسولُ صلى الله عليه وسلم في سنته، من أنهم صادقون بارُّون، يهدون إلى سبل الخير والرشاد، ويدلُّون أممهم التي أُرسِلوا إليها لعبادة رب العباد، ويُخرِجون - بإذن الله - الناسَ من ظلمات الجهل والغَواية، إلى نور الإيمان والهداية، ويُؤمِنون بكل شرائعهم، ويؤمنون بأنها جميعًا نُسِخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، والتي ستبقى حتى قيام الساعة، وأنه لا تزال طائفة من أمَّتِه على الحق ظاهرين، وبه عاملين، وعنه مدافعين، ولأهله مناصرين.
وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].
معنى الطاغوت: ما تجاوز به العبدُ حدَّه من معبودٍ أو متبوع أو مطاع.
وهذا هو أَولى الفروض بالتقدُّم، وأعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق الله تعالى أن يُوحَّد، وأن يُعبَد وحده لا شريك له، وأن يُجتَنَب كلُّ طاغوت من شيطان وغيره أن يعبد، وكل ما يدعو إلى الضلال، وهو مخالفة شرع الله الذي أنزله على رسله.
اعلم أن التوحيد الذي بعَث الله به الرسلَ، وأنزل به الكتب، ينقسم إلى أقسام ثلاثة، حسب استقراء النصوص من الكتاب والسنة، وحسب واقع المكلَّفين:
القسم الأول: توحيد الربوبية، وهو توحيد الله بأفعاله سبحانه، وهو الإيمان بأنه الخالق الرازق، المدبر لأمور خلقه، المتصرف في شؤونهم في الدنيا والآخرة، لا شريك له في ذلك، كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الزمر: 62]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ﴾ [يونس: 3] الآية، وهذا النوع قد أقرَّ به المشركون عبَّادُ الأوثان - وإن جحد أكثرهم البعث والنشور - ولم يُدخِلْهم في الإسلام؛ لشركهم بالله في العبادة، وعبادتهم الأصنامَ والأوثان معه سبحانه، وعدم إيمانهم بالرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
القسم الثاني: توحيد العبادة، ويسمى توحيد الألوهية، وهي العبادة، وهذا القسم هو الذي أنكره المشركون فيما ذكر الله عنهم سبحانه بقوله:﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 4، 5]، وأمثالها كثير، وهذا القسم يتضمَّن إخلاص العبادة لله وحده، والإيمان بأنه المستحق لها، وأن عبادة ما سواه باطلة، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود بحق إلا الله، كما قال الله - عز وجل -: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ﴾ [الحج: 62].
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات: وهو الإيمان بكل ما ورد في كتاب الله العزيز، وفي السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، من أسماء الله وصفاته، وإثباتها لله سبحانه على الوجه الذي يليق به، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما قال الله سبحانه: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 - 4]، وقال سبحانه: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 180]، وقال سبحانه في سورة النحل: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [النحل: 60]، والآيات في هذا المعنى كثيرة، والمثل الأعلى هو الوصف الأعلى الذي لا نقص فيه، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأتباعهم بإحسانٍ، يُمِرُّون آيات الصفات وأحاديثَها كما جاءت، ويُثبِتونَ معانيَها لله سبحانه إثباتًا بريئًا من التمثيل، ويُنَزِّهون الله سبحانه عن مشابهة خلقه تنزيهًا بريئًا من التعطيل، وبما قالوا تجتمع الأدلة من الكتاب والسنة، وتقوم الحجة على مَن خالفهم، وهم المذكورون في قوله سبحانه: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100].
وقال ابن أبي العز الحنفي:
اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله.
قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59].
وقال هود عليه السلام لقومه: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59].
وقال صالح عليه السلام لقومه: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 73].
وقال شعيب عليه السلام لقومه: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 85].
وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].
وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله))؛ رواه البخاري ومسلم.
ولهذا؛ كان الصحيح أن أوَّل واجب يجب على المكلَّف شهادةُ أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال أرباب الكلام المذموم، بل أئمةُ السلف كلهم متَّفقون على أن أول ما يُؤمَر به العبد الشهادتانِ، ومتَّفِقون على أن مَن فعل ذلك قبل البلوغ لم يُؤمَر بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يُؤمَر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميَّز عند مَن يرى ذلك، ولم يُوجِب أحدٌ منهم على وليِّه أن يخاطبه حينئذٍ بتجديد الشهادتين، وإن كان الإقرار بالشهادتين واجبًا باتفاق المسلمين، ووجوبه يسبق وجوب الصلاة، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك.
وهنا مسائل تكلَّم فيها الفقهاء؛ كمَن صلَّى ولم يتكلَّم بالشهادتين، أو أتى بغيرِ ذلك من خصائص الإسلام، ولم يتكلَّم بها، هل يصير مسلمًا أم لا؟
فالصحيح أنه يصير مسلمًا بكل ما هو من خصائص الإسلام، فالتوحيد أوَّلُ ما يدخل في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن كان آخر كلامِه لا إله إلا الله، دخل الجنة))، وهو أول واجب وآخر واجب، فالتوحيد أول الأمر وآخره؛ أعني توحيد الإلهية.
فإن التوحيد يتضمَّن ثلاثة أنواع:
أحدها: الكلام في الصفات.
والثاني: توحيد الربوبية، وبيان أن الله وحده خالق كل شيء.
والثالث: توحيد الإلهية، وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يُعبَد وحده لا شريك له.
أما الأول، فإن نُفاة الصفات أدخلوا نفيَ الصفات في مسمى التوحيد؛ كالجهم بن صفوان ومَن وافقه، فإنهم قالوا: إثبات الصفات يستلزم تعدُّد الواجب، وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة، فإن إثبات ذاتٍ مجرَّدة عن جميع الصفات لا يُتصوَّر لها وجودٌ في الخارج، وإنما الذهن قد يفرض المُحال ويتخيله، وهذا غاية التعطيل، وهذا القول قد أفضى بقومٍ إلى القول بالحلول والاتحاد، وهو أقبح من كفر النصارى، فإن النصارى خصوه بالمسيح، وهؤلاء عمُّوا جميع المخلوقات.
ومن فروع هذا التوحيد: أن فرعون وقومه كاملو الإيمان، عارفون بالله على الحقيقة!
ومن فروعه: أن عباد الأصنام على الحق والصواب، وأنهم إنما عبَدوا الله لا غيره!
ومن فروعه: أنه لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية، ولا فرق بين الماء والخمر، والزنا والنكاح، الكل من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة.
ومن فروعه: أن الأنبياء ضيَّقوا على الناس.
تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
وأما الثاني: وهو توحيد الربوبية، كالإقرار بأنه خالقُ كلِّ شيءٍ، وأنه ليس للعالَم صانعانِ متكافئان في الصفات والأفعال، وهذا التوحيد حقٌّ لا ريب فيه، وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلام وطائفة من الصوفية.
وهذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورةً على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم: ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [إبراهيم: 10]، وأشهر مَن عُرِف تجاهلُه وتظاهرُه بإنكار الصانعِ هو فرعونُ، وقد كان مستيقنًا به في الباطن، كما قال موسى: ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ ﴾ [الإسراء: 102]، وقال تعالى عنه وعن قومه: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14]؛ ولهذا لما قال: ﴿ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 23]؟ على وجه الإنكار له تجاهل العارف، قال له موسى: ﴿ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الشعراء: 24 - 28].
وقد زعم طائفةٌ أن فرعون سأل موسى مستفهمًا عن الماهية، وأن المسؤول عنه لما لم يكن له ماهية، عجز موسى عن الجواب! وهذا غلط؛ وإنما هذا استفهامُ إنكارٍ وجحد، كما دل سائر آيات القرآن على أن فرعون كان جاحدًا لله، نافيًا له، لم يكن مثبتًا له طالبًا للعلم بماهيته؛ فلهذا بيَّن لهم موسى أنه معروف، وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بما هو؟ بل إنه أعرف وأظهر وأبين من أن يُجهَل، بل معرفته مستقرَّة في الفِطَر أعظم من معرفة كل معروف.
ولم يُعرَف عن أحدٍ من الطوائف أنه قال: إن العالَم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال، فإن الثنويَّة من المجوس، والمانويَّة القائلين بالأصلين: النور والظُّلمة، وأن العالَم صدر عنهما - متفقون على أن النور خير من الظلمة، وهو الإله المحمود، وأن الظلمة شريرة مذمومة، وهم متنازعون في الظلمة، هل هي قديمة أو محدثة؟ فلم يثبتوا ربَّينِ متماثلين.
وأما النصارى القائلون بالتثليث، فإنهم لم يثبتوا للعالَم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل متفقون على أن صانع العالَم واحد، ويقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، وقولهم في التثليث متناقض في نفسه، وقولهم في الحلول أفسد منه؛ ولهذا كانوا مضطربين في فهمه، وفي التعبير عنه، لا يكاد واحد منهم يعبر عنه بمعنًى معقول، ولا يكاد اثنان يتفقان على معنًى واحد، فإنهم يقولون: هو واحد بالذات، ثلاثة بالأقنوم! والأقانيم يفسرونها تارةً بالخواص، وتارةً بالصفات، وتارةً بالأشخاص، وقد فَطَر الله العباد على فساد هذه الأقوال بعد التصور التام، وبالجملة فهم لا يقولون بإثبات خالقين متماثلين.
يتبع
تايم فيور timeviewer تيم فيور timeviewer - meet experts