لَقدْ جَاءَتْ عَدَدٌ من النُّصوصِ الشَّرعيةِ في كتَابِ الله تعَالى وسُنِّةِ نَبيِّهِ محُمدٍ عَليه الصَّلاَةُ والسَّلاَم تَحثُّ الْمُسلمينَ على الاجتماعِ والائتلافِ، وتَنْهَى عن الْفُرْقَةِ والاختلافِ.
فمنها قول الله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ [سورة آل عمران: 103]، فاللهُ تعالَى يَأمرُ عبادَهُ الْمُؤمنينَ بأَنْ يَستمسِكُوا بدينِهِ وَكتَابِهِ، ويُقِيمُوا دينَهُمُ الذي اِرتضَاهُ لَهُمْ، وهُوَ الذي شَرَعَهُ لَهُمْ، وَأَوصَلَهُ إليهِم، وَجَعَلهُ سَبباً في فلاحِهِم في الدُّنيا والآخرةِ، وَأَمَرَهُمْ أَيضاً أَنْ يجْتَمِعُوا على ذَلكَ وألَّا يَتفرَّقُوا كما تَفرَّقتِ الْيَهودُ وَالنَّصارى في أَدْيانهِم، فإنَّ الْفُرقةَ مَهلكةٌ، وَالْجَماعةَ مَنجَاةٌ.
قَالَ الإِمَامُ ابنُ المبارَكِ -رحمه الله-:
إنَّ الجماعةَ حَبلُ اللهِ فاعتصمُوا
مِنهُ بعُروَتهِ الوُثقى لمن دَانا
وقَدْ نهَى اللهُ تعالَى عن النِّزَاعِ الذي يُؤدي إلى الْخِصَامِ، والْخِصَام الَّذي يَنتجُ عنه الْوَهْنُ والضَّعفُ وَالانحطاطُ، قال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [سورة الأنفال: 46]، فأخبرَ تعالى أنَّ طاعتَه وَطاعةَ رَسُولهِ وَائتلافَ قُلوبِ الْمُؤمنينَ وثَباتهم على دِينهِمْ وعَدَمِ تَنازُعهِم والصَّبرِ على ذلكَ سَببٌ للنَّصرِ على الأعداءِ، والتَّنازعُ في الآراءِ سَببٌ للْفُرْقةِ والْخُصُومَةِ والْفَشَلِ ممَّا يجعلُ المختلفينَ لُقمةً سائغةً لأعدائهِمْ، وَشَواهدُ الأحوالِ على هذا قَائمةٌ لمن استقرأَ تاريخَ الدُّولِ والأُمَمْ.
وَالْفَشَلُ الْمُترتِّبُ عَلى الْمُنازَعةِ والْمُخَاصَمةِ والْمُجَادَلةِ هو ضَعفٌ مَعْ جُبنٍ، وتفشَّلَ الْمَاءُ إذا سَالَ، وفي تهذيبِ اللُّغةِ: " قالَ اللَّيثُ: رَجلٌ فَشِلٌ، وقد فَشِلَ يَفْشَلُ عند الحرب والشِّدَّة، إذا ضَعُفَ وَذَهبَتْ قِواهُ، ويقال: إنه لَخَشْلٌ فَشْلٌ، وإنه لَخَشِلٌ فَشِلٌ.
وقال الله جَلَّ وعزَّ: ﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال: 46]، قال الزَّجاج: أي تَجْبُنُوا عن عَدُوِّكُمْ إذا اخْتَلَفْتُمْ "[1].
ولاشَكَّ أنَّ الاختلافَ بين النَّاس يُفضِي إلى التَّنازُعِ والتَّناحُرِ وَالْمُجادلةِ والْمُخَاصمةِ والْفُرقةِ، لا سيَّمَا إذا كانَ منشأُ الاختلافِ عَنْ هَوىً لا بحثاً عن الْحقِّ، فقَدْ كانَ النَّاسُ بعد أبيهم آدم عليه السلام قبلَ عَشرةِ قُرونٍ مِنْ إرسالِ نُوحٍ عَليه السلام أُمَّةً واحدةً تتحدُّ مقاصدَها ومطالبهَا ووجهتهَا على توحيدِ الله تعالى وتحقيقِ الْعُبوديةِ لربِّهم جلَّ وعلا[7]، ثم ابتعَدُوا عَنْ دينهِم وفَرَّقتهم الأهْواءُ الْمُختلفةُ فانحرفُوا عَنْ جَادَّةِ الصِّراطِ المستقيمِ الذي يُثمرُ كل خَيرٍ وسَعَادةٍ لَهُمْ في الْعَاجلِ والآجلِ، وصَارَ مآلهُم إلى الاختلافِ وَالشِّقِاقِ وَالْعِصيانِ الْمُستَتبعِ لِلْفَسادِ وَالشَّقاءِ في الدَّارين.
وَلَمَّا كانَ النَّاسُ لم يُخْلَقُوا سُدىً مَنَّ الله عليهم بما يُبصِّرهُمْ سَبيلَ الرَّشادِ في الاتحادِ على الْحقِّ والاستقامةِ عليه من بَعثةِ الرُّسلِ وَالأنبيَاءِ -عليهم السلام- مُبشِّرينَ لمن آمنَ باللهِ وأطاعَه، ومُنذرينَ لمن كفرَ به وعَصَاه، وأنعمَ عليهم بأَنْ أنزلَ مَعَهُمْ الْكتابَ الْحقِّ وَالشَّريعة لِيَحْكُمَ بَينهُمْ فِيمَا يحتاجُونَ إليه من أُمورِ دينهِم ودُنْياهُمْ وذلكَ لإزالةِ الاختلافِ ليتَّفقوا ويجتمعُوا على الاِستِقَامةِ والْهِدايةِ التامَّةِ، ولكنَّهُمْ بَغى بَعضُهُم على بَعضٍ، وحَصَلَ التَّنازعُ وكَثرةُ التَّخاصُم والاختِلاف في الْكتَابِ، وذلكَ مِنْ بَعدِ مَا عَلِمُوهُ وَتَيقَّنوهُ، فَضَلَّوا بذلكَ عن الصِّراطِ الْمُستقيم.
_______________________________
[1] تهذيب اللغة للأزهري (11/251 ).
[2] مجموع الفتاوى لابن تيمية (34/63).
[3] إعلام الموقعين (1/49-50).
[4] الاعتصام للشاطبي (2/249).
[5] تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/365).
[6] البداية والنهاية لابن كثير (2/86).
[7] أخرج البزار، وَابن جَرِير، وَابن المنذر، وَابن أبي حاتم، والحاكم وصحَّحه، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كانَ بينَ آدم ونُوح عشرة قرون كلهم على شريعةٍ من الحقِّ فاختلفوا فبعث الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ وَمُنذرِينَ ، قال: وكذلك هي في قراءة عبدالله: (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا)".