شرح طائفة من الأدعية
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ؛ أما بعد :
فهذه معاشر الإخوة الكرام دعوات جامعةٌ ثابتةٌ عن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام نقف متأملين في دلالاتها العظيمة ومعانيها الرفيعة لنستفيد عند دعائنا بها الفائدة التامة المرجوة ، لأن المسلم كلما كان على علمٍ وفهمٍ ومعرفةٍ بمعاني أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم كان ذلكم أكمل في حقه وأرفع في نيل الآثار والثمار التي تترتب على هذه الأدعية المباركة ؛ فإلى جملةٍ من الأدعية الجامعة الثابتة عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم مع وقفاتٍ في بيان معانيها ودلالاتها .
أول هذه الدعوات ما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ((كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )) رواه البخاري ومسلم .
معاشر المؤمنين : هذه دعوة عظيمة وصفها أنس رضي الله عنه بأنها كانت أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يدعو بهذه الدعوة ، وهي دعوة عظيمة جامعة لخيري الدنيا والآخرة ؛ ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)) .
وقد ذكر الله تعالى هذه الدعوة في القرآن الكريم عندما أخبر في كتابه عن أهل الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم ممن حجُّوا بيته الحرام أنهم يسألونه جل وعلا هذه المسألة العظيمة ، ذكر الله ذلك عنهم على وجه المدح لهم قال : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [البقرة:201] ، وقد جمعوا في هذا الدعاء بين مصلحتي الدارين الدنيا والآخرة .
قوله : ((رَبَّنَا)) نداءٌ فيه الإقرار بربوبية الله عز وجل المستلزم توحيده في العبادة وإخلاص الدين له عز وجل .
وقوله : ((آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)) هذا دعاءٌ لخير الدنيا ؛ فإن الحسنة المطلوبة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي مما يحسُن وقوعه عند العبد ، فيشمل العافية ، والصحة ، والرزق الهنيء ، والدار الرحبة الطيبة ، والزوجة الصالحة بالنسبة للرجل ، والزوج الصالح بالنسبة للمرأة ، والولد الذي تقر به العين ، والعلم النافع ، والعمل الصالح ، والأمن وغير ذلك من الأمور المحبوبة للعبد التي يحسُن عنده ويطيب له وقوعها وحصولها له .
وعندما نتأمل - معاشر الإخوة - كلام أهل العلم في المراد بالحسنة في قوله { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } فمن أهل العلم من قال : الحسنة العافية ، ومنهم من قال : الرزق ، ومنهم من قال : الدار الطيبة ، ومنهم من قال : الزوجة الصالحة ؛ فهذه كلها معانٍ يشملها قوله{ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } .
وقوله : (( وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً )) أي : وآتنا في الآخرة حسنة . والحسنة في الآخرة تتناول أموراً عديدة من دخول الجنة وتوابع ذلك من حصول الأمن من الفزع في عرصات يوم القيامة ، وتيسير الحساب وغير ذلك من الخيرات التي ينالها أهل الإيمان في اليوم الآخر ، وأعظم ذلك وأجلّه وأرفعه قدراً رؤية الله سبحانه وتعالى في جنات النعيم ، وهذا أحسن شيءٍ يناله أهل الجنة كما قال الله تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [يونس:26] .
وقوله: (( وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )) أي : اصرف عنا عذاب النار ؛ وهذا فيه الدعاء بالنجاة من النار وعدم الدخول فيها ، وهو يشمل سؤال الله تبارك وتعالى البعد عن أسباب دخول النار من المحرمات والآثام ونحو ذلك .
أيها الإخوة : إن هذه دعوة جامعة شاملة لخيري الدنيا والآخرة ، ولا غرو إذاً أن تكون أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد جاء في صحيح مسلم أن أنس - راوي هذا الحديث رضي الله عنه - كان (( إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدَعْوَةٍ دَعَا بِهَا )) أي : جعل حاجته في هذه الدعوة .
مثلاً : شخصٌ أراد بيتاً واسعاً ؛ فجعل طلبه للبيت الواسع في ضمن هذه الدعوة فقال " رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً " وفي ضمن ذلك يريد البيت الواسع أو الولد الصالح أو الزوجة الصالحة أو نحو ذلك ، فهي دعوة تشمل خير الدنيا ، وقوله " وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً " تشمل خير الآخرة كله . فهذا من جوامع كلم رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام .
وكان عليه الصلاة والسلام يأتي بهذا الدعاء - مع إكثاره منه - بين الركنين الركن اليماني والحجر الأسود كما ثبت في سنن أبي داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ : (( سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ : رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )) ، وجاء في صحيح مسلم في حديث أنس بن مالك (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ - أي: ضعف واشتد به المرض - فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ ؟ قَالَ نَعَمْ ؛ كُنْتُ أَقُولُ اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا ، - أي : كان هذا الرجل يسأل الله عز وجل أن يعجِّل له العقوبة التي أراد أن يعاقبه بها في الآخرة - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ! لَا تُطِيقُهُ أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ - أي لا تستطيع تحمُّل العقوبة - أَفَلَا قُلْتَ " اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " قَالَ فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ )) .
وروى البخاري رحمه الله في كتابه الأدب المفرد عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قَالَ : قيلَ لَه إنَّ إخوانَك أَتوك مِن البَصرةِ - وهُو يَوْمَئِذٍ بِالزَّاوِيَةِ - لِتدعُو اللَّهَ لَهم قَالَ: اللهُمَّ اغفِر لَنا وارحمنَا وآتنَا فِي الدُنيا حَسنة وفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنا عَذاب النَّار . فاستزادُوه فَقال مِثلها ، فَقال: إِنْ أُوتِيتُم هَذا فَقد أُوتيتُم خَيرَ الدُنيا والآخِرة .
وهذا يبيّن أن هذه الدعوة دعوةٌ عظيمةٌ جامعة ينبغي على كل مسلم الإكثار منها والعناية بها والمحافظة عليها .
الدعاء الثاني : حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى )) رواه مسلم .
وهذا الدعاء العظيم - معاشر الإخوة - جمع واشتمل على أربعة مطالب عظيمة ، وهي : الهداية والتقوى والعفاف والغنى . يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في كتابه "بهجة قلوب الأبرار " في تعليقٍ له جميل على هذا الحديث : " هذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها ، وهو يتضمن سؤال خير الدين وخير الدنيا ؛ فإن الهدى : هو العلم النافع ، والتقى : العمل الصالح وترك ما نهى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه ، وبذلك يصلح الدين ؛ فإن الدين علومٌ نافعةٌ ومعارف صادقةٌ فهي الهدى والقيام بطاعة الله ورسوله فهو التقى ، والعفاف والغنى يتضمن العفاف عن الخلق وعدم تعليق القلب بهم والغنى بالله وبرزقه والقناعة بما فيه وحصول ما يطمأن به القلب من الكفاية ، وبذلك تتم سعادة الحياة الدنيا والراحة القلبية وهي الحياة الطيبة ، فمن رُزق الهدى والتقى والعفاف والغنى نال السعادتين وحصل له كل مطلوب ونجا من كل مرهوب " .
الدعوة الثالثة : حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يقول في دعاءه : (( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ؛ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) رواه البخاري ومسلم .
وهذه - معاشر المؤمنين - دعوةٌ عظيمة من جوامع أدعية النبي صلى الله عليه وسلم في باب سؤال الله عز وجل مغفرة الذنوب ، وقد جاء هذا الاستغفار بألفاظ التعميم والشمول مع البسط والتفصيل لما يطلُب العبد من ربه تبارك وتعالى أن يغفر له ، وذلك بذكر كل معنىً بصريح لفظه دون الاكتفاء باللفظ الآخر الدال عليه ، فلو قال المسلم " اللهم اغفر لي ذنبي كله أو جميع أخطائي " فإن هذا الدعاء يشمل كل ما ذُكر في هذا الحديث ؛ لكنه أتى في هذا المقال وفي هذا السؤال بألفاظ الشمول والبسط والتفصيل ليتناول وليستحضر العبدُ أنواع أخطائه ؛ الخطأ الجديد ، والخطأ القديم ، والخطأ المعلَن ، والخطأ الخفي ، والخطأ الذي عن جِدّ ، والخطأ الذي عن هزل ، والذي عن عمد ؛ يستحضر أنواع أخطائه ، ويطلب بذكرها بالتفصيل من رب العالمين أن يغفر له ذلك كله . وإلا كما قدّمت لو قال " اللهم اغفر لي ذنبي كله أو اغفر لي كل ما صنعت " لكان الكلام أوجز وأخصر ؛ ولكن لما كان المقام مقام طلب غفرانٍ وتضرعٍ ودعاءٍ وافتقارٍ وطلب عفوٍ من الله جل وعلا جاء بهذا الأسلوب الذي فيه البسط والتفصيل (( خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي )) إلى آخر ما جاء في هذه الدعوة العظيمة .
وهذا الاستغفار الذي ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام فيه تعليم للأمة كيف يستغفرون الله وكيف يتضرعون إليه تبارك وتعالى وكيف يطلبون منه أن يغفر لهم الذنوب ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي )) .
((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ )) أي الذنوب المتقدِّمة والذنوب المتأخرة .
((وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ )) يعني ما وقع مني من الذنوب على وجه الإخفاء والإسرار ، وما وقع مني من الذنوب على وجه الإعلان والإظهار .
ثم ختمه بقوله : (( وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ؛ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ )) أي تقدِّم من شئت بالتوفيق والهداية ، وتؤخِّر من شئت بالخذلان .
(( وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) أي الأمور كلها بيدك ونواصي العباد معقودةٌ بقضائك وقدَرك ، والله تبارك وتعالى على كل شيء قدير .
فهذه دعوة عظيمة واستغفار مبارك ثبت عن رسولنا الكريم عليه صلوات الله وسلامه عليه .
بعد ذلك الدعوة الرابعة : ما جاء في حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( قُلْ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي ، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ ، وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ )) وفي رواية ((قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ )) رواه مسلم .
وهذه الدعوة التي علَّمها النبي صلى الله عليه وسلم علي ابن أبي طالب دعوةٌ مباركة تتضمن سؤال الله عز وجل الهدى والسداد ، وهما أجلُّ المطالب وأشرف المواهب ، ولا سبيل للعبد أن يحصِّل الهدى والسداد إلا إذا وفقه الله عز وجل وهداه وسدَّده ، ولهذا جاءت هذه الدعوة يتوجه فيها العبد إلى الله عز وجل أن يهديه ويسدده .
والهدى : هو معرفة الحق تفصيلاً وإجمالاً ، والتوفيق لإتباعه ظاهراً وباطنا .
وأما السداد فهو أن يوافق الحق ، وأن يصيب الهدى والسنة ، وأن يكون ملتزماً بما كان عليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
ومما يوضح هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثٍ آخر : ((سَدِّدُوا وَقَارِبُوا)) ؛ فالسداد هو موافقة الحق وإصابة سنة النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه ، والمقاربة هي دون ذلك .
وقوله ((وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ ، وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ )) أي : تذكر هذين الأمرين :
تذكر بالهدى هدايتك الطريق ، أي : لو كنت ضالاً في فلاة لا تعرف الطريق وتريد الهداية إليه .
واذكر بالسداد إصابتك السهم ؛ لأن الرامي الذي يرمي ويريد أن يصيب قد لا يصيب ، قد يرمي ويقصد أن يصيب الرمية فلا يصيب ، فإذا سدَّد السهم حصلت الإصابة ، فتذكر هذين الأمرين ((وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ ، وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ )) .
وابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان علَّق هنا على هذا الدعاء فقال : " هذا من أبلغ التعليم والنصح ؛ حيث أمره أن يذكر إذا سأل الله الهدى إلى طريق رضاه وجنته كونه مسافرا، وقد ضل عن الطريق ولا يدرى أين يتوجه، فطلع له رجل خبير بالطريق عالمٌ به فسأله أن يدله على الطريق ، فهكذا شأن طريق الآخرة تمثيلاً لها بالطريق المحسوس للمسافر إلى الله سبحانه إلى أن يهديه تلك الطريق، فحاجته إلى ذلك أعظم من حاجة المسافر إلى بلدٍ من يدله على الطريق الموصل إليها ، وكذلك السداد وهو إصابة القصد قولاً وعملاً ؛ فمثله مثل رامي السهم إذا وقع سهمه في نفس الشيء الذي رماه، فقد سدَّد سهمه وأصاب ولم يقع باطلا ، كذا المصيب للحق في قوله وعمله بمنزلة المصيب في رميه " انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى .
ثم بعد ذلك الدعوة الخامسة : ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي ، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي ، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي ، وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ )) رواه مسلم .
وهذه الدعوة هي أيضاً من جوامع دعوات النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، وقد اشتملت على سؤال الله عز وجل صلاح الدين والدنيا والآخرة ، وبدأ أول ما بدأ بصلاح الدين ؛ لأنه بصلاحه يصلح ما سواه ، فتقديم الدين على ما سواه فيه فائدة الاهتمام بالدين وأن أمر الدين مقدَّم على غيره ، نعم ! لا بأس أن يهتم الإنسان بدنياه ، لكن الاهتمام بالدين مقدَّم على الاهتمام بالدنيا ، ولهذا جاء في الدعاء (( اللهم لَا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا )) أي أنه لا بأس أن يهتم الإنسان بالدنيا لكن لا يجوز له أن يكون اهتمامه بالدنيا طاغياً على اهتمامه بالآخرة والدين ، ولذا جاء تقديم الدين لأنه له الأولوية بالتقديم والاهتمام ، وكثير من الناس يهتم بالدنيا والشكليات والمظاهر ويكون اهتمامه بدينه آخر شيء ، يعتني بالمظاهر ما لا يعتني بصلاح دينه وإقامة دينه ، وعلى كل حال فهذا الحديث فيه دلالة على أن الواجب على العبد أن يكون اهتمامه بدينه مقدماً على اهتمامه بأي أمرٍ آخر .
وقوله ((اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي)) هذا دعاء بإصلاح الدين ، أي أن يصلح الله عز وجل له دينه ، والمعنى : أن توفقني يا الله للقيام بواجباته وآدابه وسننه ومستحباته ومقتضياته على الوجه الأكمل الذي ترضاه عنا ، وذلك بأن يوفق الله عز وجل عبده للتمسك بالكتاب والسنة وفق هدي السلف الصالح الصحابة ومن اتَّبعهم بإحسان ؛ فهذا هو صلاح الدين .
ثم قال ((الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي)) أي ما اعتصم به في جميع أموري ، كما قال الله عز وجل : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } [آل عمران:103] وفي هذا فائدة عظيمة : أن التمسك بالدين على المنهج الصحيح فيه عصمةٌ للعبد من موبقات الفتن ومضلات الفتن ومن الوقوع في الانحراف سواءً في العقيدة أو في العمل ، وفي هذا أيضاً دلالة أنَّ إضاعة الدين فيه انفراط الأمر وضياعه كما قال تعالى : { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف:28] .
وقوله : ((وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ )) هذا دعاءٌ بإصلاح الدنيا ؛ أي أن يعطيه الله عز وجل الكفاف فيما يحتاج إليه من دنياه ، وبأن يكون حلالاً ، وأن يكون معِيناً على طاعة الله عز وجل والقيام بما خلق له العباد .
وقوله ((الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي )) : أي فيها مكان عَيشي وزمن حياتي ، وفي هذا أن للإنسان معاشاً محدوداً ورزقاً مقدَّراً لن يموت حتى يستتمَّه ويستكمله .
وقوله ((وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي )) : هذا دعاءٌ بإصلاح الآخرة ، وإصلاح الآخرة يكون باللطف من الله سبحانه والتوفيق منه بالإخلاص في الطاعة وحُسن الخاتمة ليفوز بالنعيم المقيم في الجنة ورضا الله سبحانه وتعالى يوم القيامة .
وقوله : ((الَّتِي فِيهَا مَعَادِي )) أي فيها مكان رجوعي وزمن إعادتي إلى الله عز وجل { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى }[النجم:31] .
وقوله ((وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ )) : أي اجعل طول عمري وامتداد حياتي في هذه الحياة فرصةً لي وسبباً لي في إتيان الخير من القول والعمل الصالح ، وفي هذا أن طول عمر العبد مدعاةٌ للزيادة في أعمال الخير وأعمال البر والطاعة .
وقوله : ((وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ )) هذا فيه سؤال لله تبارك وتعالى أن يجعل وفاة العبد وموته وخروجه من هذه الحياة راحةً له من الشرور والمحن والفتن والابتلاء بالمعصية والغفلة .
فهذه من الدعوات العظيمة الجامعة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يتبع