ومن عقوباتها أنها تعمي القلب ، فإن لم تعمه أضعفت بصيرته ولابد ، وقد تقدم بيان أنها تضعفه ولابد ، فإذا عمي القلب وضعف ، فاته من معرفة الهدى وقوته على تنفيذه في نفسه وفي غيره ، بحسب ضعف بصيرته وقوته .
فإن الكمال الإنساني مداره على أصلين : معرفة الحق من الباطل ، وإيثاره عليه .
وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين [ ص: 93 ] الأمرين ، وهما اللذان أثنى الله بهما سبحانه على أنبيائه بهما في قوله تعالى : واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار [ سورة ص : 45 ] .
فالأيدي : القوة في تنفيذ الحق ، والأبصار : البصائر في الدين ، فوصفهم بكمال إدراك الحق وكمال تنفيذه ، وانقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسام ، فهؤلاء أشرف الأقسام من الخلق وأكرمهم على الله تعالى .
القسم الثاني : عكس هؤلاء ، من لا بصيرة له في الدين ، ولا قوة على تنفيذ الحق ، وهم أكثر هذا الخلق ، وهم الذين رؤيتهم قذى العيون وحمى الأرواح وسقم القلوب ، يضيقون الديار ويغلون الأسعار ، ولا يستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار .
القسم الثالث : من له بصيرة بالحق ومعرفة به ، لكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه ولا الدعوة إليه ، وهذا حال المؤمن الضعيف ، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله منه .
القسم الرابع : من له قوة وهمة وعزيمة ، لكنه ضعيف البصيرة في الدين ، لا يكاد يميز بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ، بل يحسب كل سوداء تمرة وكل بيضاء شحمة ، يحسب الورم شحما والدواء النافع سما .
ولم يكتف منهم بمعرفة الحق والصبر عليه ، حتى يوصي بعضهم بعضا به ويرشده إليه ويحضه عليه .
وإذا كان من عدا هؤلاء فهو خاسر ، فمعلوم أن المعاصي والذنوب تعمي بصيرة القلب فلا يدرك الحق كما ينبغي ، وتضعف قوته وعزيمته فلا يصبر عليه ، بل قد يتوارد على القلب حتى [ ص: 94 ] ينعكس إدراكه كما ينعكس سيره ، فيدرك الباطل حقا والحق باطلا ، والمعروف منكرا والمنكر معروفا ، فينتكس في سيره ويرجع عن سفره إلى الله والدار الآخرة ، إلى سفره إلى مستقر النفوس المبطلة التي رضيت بالحياة الدنيا ، واطمأنت بها ، وغفلت عن الله وآياته ، وتركت الاستعداد للقائه ، ولو لم يكن في عقوبة الذنوب إلا هذه وحدها لكانت داعية إلى تركها والبعد منها ، والله المستعان .
وهذا كما أن الطاعة تنور القلب وتجلوه وتصقله ، وتقويه وتثبته حتى يصير كالمرآة المجلوة في جلائها وصفائها فيمتلئ نورا ، فإذا دنا الشيطان منه أصابه من نوره ما يصيب مسترق السمع من الشهب الثواقب ، فالشيطان يفرق من هذا القلب أشد من فرق الذئب من الأسد ، حتى إن صاحبه ليصرع الشيطان فيخر صريعا ، فيجتمع عليه الشياطين ، فيقول بعضهم لبعض : ما شأنه ؟ فيقال : أصابه إنسي ، وبه نظرة من الإنس :
فيا نظرة من قلب حر منور يكاد لها الشيطان بالنور يحرق
أفيستوي هذا القلب وقلب مظلم أرجاؤه ، مختلفة أهواؤه ، قد اتخذه الشيطان وطنه وأعده مسكنه ، إذا تصبح بطلعته حياه ، وقال : فديت من لا يفلح في دنياه ولا في أخراه ؟
قرينك في الدنيا وفي الحشر بعدها فأنت قرين لي بكل مكان
فإن كنت في دار الشقاء فإنني وأنت جميعا في شقا وهوان
فأخبر سبحانه أن من عشي عن ذكره ، وهو كتابه الذي أنزل على رسوله ، فأعرض عنه ، وعمي عنه ، وعشت بصيرته عن فهمه وتدبره ومعرفة مراد الله منه - قيض الله له شيطانا عقوبة له بإعراضه عن كتابه ، فهو قرينه الذي لا يفارقه في الإقامة ولا في المسير ، ومولاه وعشيره الذي هو بئس المولى وبئس العشير .
رضيعا لبان ثدي أم تقاسما بأسحم داج عوض لا نتفرق
ثم أخبر سبحانه أن الشيطان يصد قرينه ووليه عن سبيله الموصل إليه وإلى جنته ، ويحسب هذا الضال المصدود أنه على طريق هدى ، حتى إذا جاء القرينان يوم القيامة يقول أحدهما للآخر : ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين كنت لي في الدنيا ، أضللتني [ ص: 95 ] عن الهدى بعد إذ جاءني ، وصددتني عن الحق وأغويتني حتى هلكت ، وبئس القرين أنت لي اليوم .
ولما كان المصاب إذا شاركه غيره في مصيبة ، حصل له بالتأسي نوع تخفيف وتسلية ، أخبر الله سبحانه أن هذا غير موجود وغير حاصل في حق المشتركين في العذاب ، وأن القرين لا يجد راحة ولا أدنى فرح بعذاب قرينه معه ، وإن كانت المصائب في الدنيا إذا عمت صارت مسلاة ، كما قالت الخنساء في أخيها صخر :