وورد عنه أنه قال: ((لا يبلغني أحد منكم ما قيل فيّ، فإني أحب أن أخرج إليك وأنا سليم الصدر))[أخرجه احمد 3750 وأبو داود 4860 والترمذي 3896 عن عبد الله بن مسعود].
وبلّغه ابن مسعود كلاما قيل فيه، فتغيّر وجهه، وقال: ((رحم الله موسى، أوذي بأكثر من هذا فصبر))[أخرجه البخاري [3150، 3405] ومسلم 1062].
وقد أوذي من خصومه في رسالته وعرضه وسمعته وأهله، فلما قدر عليهم عفا عنهم وحلم عليهم، وقال: ((من كف غضبه كف الله عنه عذابه))[أخرجه أبو يعلى 4338 والبيهقي في الشعب 8311 وانظر العلل لابن أبي حاتم 1919 ومجمع الزاوئد 10298].
وقال له رجل: اعدل، فقال: ((خبت وخسرت إذا لم أعدل))[أخرجه البخاري 3138 ومسلم 1063 واللفظ له عن جابر بن عبدالله]، ولم يعاقبه بل صفح عنه.
وواجه بعض اليهود بما يكره، فعفا وصفح، وقد وسع بخلقه وتسامحه الناس، وأطفأ بحلمه نار العداوات ممتثلا قول ربه: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ)[(96) المؤمنون].
وكان مع أهله أحلم الناس، يمازحهم ويلاطفهم ويعفو عنهم فيما يصدر منهم، ويدخل عليهم باسما ضحاكا، يملأ قلوبهم وبيوتهم أنسا وسعادة، يقول خادمه أنس بن مالك: خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين ما قال لي في شيء فعلته: لم فعلت هذا؟ ولا شيء لم أفعله: لم لم تفعل هذا؟ وهذا غاية الحلم ونهاية حسن الخلق، وقمة جميل السجايا ولطيف العشرة، بل كان كل من رافقه أو صاحبه أو بايعه يجد من لطفه وودّه وحلمه ما يفوق الوصف، حتى تمكن حبّه من القلوب فتعلقت به الأرواح ومالت له نفوس الناس بالكلية:
وإذا رحمت فأنت أمّ أو أب *** هذان في الدنيا هم الرحماء
وإذا سخوت بلغت بالجود المدى *** وفعلت ما لم تفعل الأنواء
وإذا صحبت رأى الوفاء مجسّما *** في بُردك الأصحاب والخلطاء
وأبديت حلمك للسفيه مداريا *** حتى يضيق بحلمك السفها
محمد - صلى الله عليه وسلم - رحيما:
12- وصفه ربه بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[(107) الأنبياء]، فهو رحمة للبشرية.. ورد عنه أنه قال: ((إنما أنا رحمة مهداة))[أخرجه الدرامي 15 مرسلا، والحاكم موصولا عن أبي هريرة برقم 100 وصححه].
ورأى ولد إحدى بناته تفيض روحه، فبكى، فلما سئل عن ذلك قال: ((هذه رحمة يضعها الله في قلب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباه الرحماء))[أخرجه البخاري [1284، 6655] ومسلم 923 عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه -].
وكان رحمة على القريب والبعيد، عزيز عليه أن يدخل على الناس مشقة، فكان يخفف بالناس مراعاة لأحوالهم، وربما أراد أن يطيل في الصلاة فيسمع بكاء الطفل فيخفف لئلا يشق على أمه. ولما بكت أمامة بنت زينب ابنته حملها وهو يصلي بالناس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها. أخرجه البخاري 516، ومسلم543 عن أبي قتادة - رضي الله عنه -.
وسجد مرة فصعد الحسن على ظهره، فأطال السجود، فلما سلّم اعتذر للناس وقال: ((إن ابني هذا ارتحلني، فكرهت أن أرفع رأسي حتى ينزل))[أخرجه أحمد 27100 والنسائي 1141 عن شداد بن الهاد - رضي الله عنه -].
وقال: ((من أمّ منكم الناس فليخفف، فإن فيهم الكبير والصغير والمريض وذا الحاجة))[أخرجه البخاري 703 ومسلم 467 عن أبي هريرة - رضي الله عنه -].
وقال لمعاذ لمّا طوّل بالناس: ((أفتّان أنت يا معاذ؟))[أخرجه البخاري [705، 6106] ومسلم 465 عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه -].
وقال: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة))[أخرجه البخاري 887 ومسلم 252 عن أبي هريرة - رضي الله عنه -].
وربما ترك العمل خشية أن يفرض على الناس، وكان يتخوّل أصحابه بالموعظة...
كل ذلك رحمة منه - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقول: ((والقصد القصد تبلغوا))[أخرجه البخاري 6463 عن أبي هريرة - رضي الله عنه -].
ويقول: ((بُعثت بالحنيفية السمحة))[أخرجه أحمد 21788 عن أبي أمامة - رضي الله عنه -].
ويقول: ((خير دينكم أيسره))[أخرجه أحمد 15506 وانظر مجمع الزوائد 3308].
ويقول: ((عليكم هدياً قاصداً))[أخرجه أحمد [22454، 22544] والبيهقي في السنن الكبرى 4519 عن بريدة الأسلمي، وانظر البيان والتعريف 2109],
ويقول: ((خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا))[أخرجه البخاري 5862 ومسلم 782 عن عائشة - رضي الله عنها -].
وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وأنكر على الثلاثة الذين شدّدوا على أنفسهم في العبادة، وقال: ((والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكنني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فيس مني))[أخرجه البخاري 5063 ومسلم 1401 عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -]. وأفطر في سفر في رمضان، وقصر الرباعية، وجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في السفر، ونادى مؤذنه في المطر أن صلوا في رحالكم، وقال: ((هلك المتنطعون))[أخرجه مسلم 2670 عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -].
وقال: ((ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه))[أخرجه مسلم 2594 عن عائشة - رضي الله عنها -].
وأنكر على عبد الله بن عمرو بن العاص إرهاق نفسه بالعبادة، ويقول: ((إيّاكم والغلو))[أخرجه أحمد [1854، 3238] والنسائي 3057، وابن ماجه 3029 وابن أبي عاصم في السنة 146 عن ابن عباس - رضي الله عنهما – وصححه].
ويروى عنه قوله: ((أمتي أمة مرحومة))[أخرجه أحمد [19179، 19253] وأبو داود 4276 والحاكم 8372 عن أبي موسى - رضي الله عنه – وصححه].
وقال: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم))[أخرجه البخاري 7288 ومسلم 1337 عن أبي هريرة - رضي الله عنه -].
وهذا اليسر في حياته - عليه الصلاة والسلام - يوافق يسر الملة وسهولة الشريعة، وهو امتثال منه - صلى الله عليه وسلم - لقول ربه: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى)[(8)الأعلى]، (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة 286]، (فاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن 16]، (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [القرة 185]، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج 78]. وغيرها من الآيات.
فهو - صلى الله عليه وسلم - سهل ميسّر رحيم في رسالته ودعوته وعبادته وصلاته وصومه وطعامه وشرابه ولباسه وحله وترحاله وأخلاقه، بل حياته مبنية على اليسر؛ لأنه جاء لوضع الآصار والأغلال عن الأمة، فليس اليسر أصلا إلا معه، ولا يوجد اليسر إلا في شريعته، فهو اليسر كله، وهو الرحمة والرفق بنفسه، - صلى الله عليه وسلم -.
محمد - صلى الله عليه وسلم - ذاكرا:
13- كان - صلى الله عليه وسلم - أكثر الناس ذكرا لربه، حياته كلها ذكر لمولاه، فدعوته ذكر وخطبه ذكر ومواعظه ذكر وعبادته ذكر وفتاويه ذكر، وليله ونهاره وسفره وإقامته بل أنفاسه كلها ذكر لمولاه - عز وجل -، فقلبه معلق بربه، تنام عينه ولا ينام قلبه، بل النظر اليه يذكّر الناس بربّهم، وكل مراسيم حياته ومناسباته وذكر لخالقه جلّ في علاه.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يحث الناس على ذكر ربهم، فيقول: ((سبق المفردون: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات))[أخرجه مسلم 2676 عن أبي هريرة - رضي الله عنه -]، ويقول: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحيّ والميت))[أخرجه البخاري 6407 ومسلم 779 عن أبي موسى - رضي الله عنه -].
ويقول: ((لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله)) [أخرجه أحمد [17227، 17245] والترمذي 3375 وابن ماجه 3793 انظر المشكاة 2279].
وأخبر أن أفضل الناس أكثرهم ذكرا لربه، وروى عن ربّه - عز وجل - قوله: ((أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت شفتاه))[أخرجه البخاري معلقا في كتاب التوحيد، باب قول الله: (لا تحرك به لسانك)، وأحمد[10585، 10592] زابن ماجه3792 عن أبي هريرة - رضي الله عنه -].
ويقول: ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم))[أخرجه البخاري 7405 ومسلم 2675 عن أبي هريرة - رضي الله عنه -].
وله - عليه الصلاة والسلام - عشرات الأحاديث الصحيحة التي تحث على الذكر وترغّب فيه، والتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير والحوقلة والاستغفار والصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم -.
وكان يذكّر الناس بأجر الذكر وما يترتب على ذلك من ثواب، وذكر الأعداد في ذلك مع ذكر المناسبات، وعمل اليوم والليلة، فهو - صلى الله عليه وسلم - الذاكر الشاكر الصابر، وهو الذي ذكّر الأمة بربها وعلمها تعظيمه وتسبيحه، وبيّن لها فوائد الذكر ومنافعه. فهو أسعد الناس بذكر ربه، وأهنؤهم عيشا بهذه النعمة، وأصلحهم حالا بهذا الفضل، فكان له أوراد من الأذكار مع حضور قلب وخشوع وخضوع وهيبة وخوف ومحبة ورجاء وطمع في فضل ربه.
محمد - صلى الله عليه وسلم - داعيا:
14- يقول - تعالى -: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر 60]، ويقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة 186]، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((الدعاء هو العبادة))[أخرجه أحمد [17888، 17919] وأبو داود 1479 والترمذي [2969، 3247] عن النعمان بن بشير وصححه].
ويقول: ((من لم يسأل الله يغضب عليه))[أخرجه البخاري في الأدب المفرد 658 والترمذي 3373 عن أبي هريرة - رضي الله عنه – وصححه].
وكان - عليه الصلاة والسلام - لاهجا بدعاء ربه في كل حالاته، قد فوّض أمره لمولاه، وأكثر الإلحاح على خالقه يناشده رحمته وعفوه، ويطلب برّه وكرمه، وكان يختار جوامع الدعاء الكامل الشامل كقوله: ((اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار))[أخرجه البخاري [4522، 6389] ومسلم 2688 عن انس - رضي الله عنه -].
وقوله: ((اللهم إني أسألك العفو والعافية))[أخرجه أحمد 4770 وأبو داود 5074 وابن ماجه 3871 والحاكم 1902 عن ابن عمر - رضي الله عنهما – وصححه].
وكان يكرر الدعاء ثلاثا، ويبدأ بالثناء على ربه، وكان يستقبل القبلة عند دعائه، وربما توضأ قبل الدعاء، وكان يعلم الأمة أدب الدعاء، كالبداية بحمد الله والصلاة والسلام على رسوله، ودعاء الله بأسمائه الحسنى، والإلحاح في الدعاء، وتوخّي أوقات الإجابة كأدبار الصلوات، وبين الأذان والإقامة، وآخر ساعة من يوم الجمعة، ويوم عرفة، وفي حالة السجود والصوم والسفر، ودعوة الوالد لولده، وكان - عليه الصلاة والسلام - وقت الأزمات يلحّ على ربه ويناشده، ويكرر السؤال مع تمام الذلّ والخوف والحب وحسن الظن، وتمام الرجاء، كما فعل يوم بدر ويوم الخندق ويوم عرفة.
وكان الله يجيب دعوته ويلبّي طلبه، كما حصل له على المنبر يوم استسقى فنزل الغيث مباشرة، ويوم شق له القمر، وبارك له في الطعام والمال، ونصره في حروبه، ورفع دينه وأيّد حزبه وخذل أعداءه، وكبت خصومه، حتى حقق الله له مقاصده وأكرم مثواه وجعل له العاقبة - صلى الله عليه وسلم -.
محمد - صلى الله عليه وسلم - طموحا:
15- ولدت همته - عليه الصلاة والسلام - معه يوم ولد، فمنذ طفولته نفسه مهاجرة إلى معالي الأمور ومكارم الخلق، لا يرضى بالدون ولا يهوى السفاسف، بل هو الطموح والسبّاق المتفرّد والمبرز المحظوظ، ولقد ذكر أهل السير أنه - عليه الصلاة والسلام - وهو طفل كان لجده عبد المطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه إلا هو لمنزلته، فجاء محمد - صلى الله عليه وسلم - فنازع الخدم حتى جلس عليه، وأبى أن يجلس دونه.
وكان فيه قبل النبوة من سمات الريادة والزعامة والقيادة ما جعل قريش يسمونه الصادق الأمين، ويرضون حكمه ويعودون إليه في أمورهم.
فلما منّ الله عليه بالبعثة تاقت نفسه إلى الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة، فسأل الله إياها، وعلّمنا أن نسألها له من ربه، بلغ سدرة المنتهى، وحاز الكمال البشري المطلق، والفضيلة الإنسانية. ومن علوّ همّته رفضه للدنيا وعدم الوقوف مع مطالبها الزهيدة لولاياتها ومناصبها وقصورها ودورها.
الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القرآن
(يا أيها النبي حسبك الله)
16- حسبك الله يكفيك من كل ما أهمّك، فيحفظك في الأزمات، ويرعاك في الملمّات، ويحميك في المدلهمّات، فلا تخش ولا تخف ولا تحزن ولا تقلق.
حسبك الله فهو ناصرك على كل عدو، ومظهرك على كل خصم، ومؤيدك في كل أمر، ويعطيك إذا سألت، ويغفر لك إذا استغفرت، ويزيدك إذا شكرت، ويذكرك إذا ذكرت، وينصرك إذا حاربت، ويوفّقك إذا حكمت.
حسبك الله فيمنحك العز بلا عشيرة، والغنى بلا مال، والحفظ بلا حرس، فأنت المظفّر لأن الله حسبك! وأنت المنصور لأن الله حسبك، وأنت الموفق لأن الله حسبك، فلا تخف من عين حاسد ولا من كيد كائد، ولا من مكر ماكر، ولا من خبث كافر، ولا من حيلة فاجر لأن الله حسبك.
وإذا سمعت صولة الباطل، ودعاية الشرك، وجلبة الخصوم، ووعيد اليهود، وتربّص المنافقين، وشماتة الحاسدين، فاثبت لأن حسبك الله.
إذا ولّى الزمان، وجفا الإخوان، وأعرض القريب، وشمت العدو، وضعفت النفس، وأبطأ الفرج، فاثبت لأن حسبك الله.
إذا داهمتك المصائب، ونازلتك الخطوب، وحفّت بك النكبات، وأحاطت بك الكوارث، فاثبت لأن حسبك الله، لا تلتفت الى أحد من الناس، ولا تدع أحدا من اليشر، ولا تتجه لكائن من كان غير الله.. لأن حسبك الله.
إذا ألمّ بك مرض، وأرهقك دين، وحلّ بك فقر، أو عرضت لك حاجة، فلا تحزن لأن حسبك الله.
إذا أبطأ النصر، وتأخر الفتح، واشتد الكرب، وثقل الحمل، وادلهمّ الخطب، فلا تحزن لأن حسبك الله، أنت محظوظ لأنك بأعيننا، وأنت محروس لأنك خليلنا، وأنت في رعايتنا لأنك رسولنا، وأنت في حمايتنا لأنك عبدنا المجتبى ونبيّنا المصطفى.
(لا تحزن إن الله معنا)
17- هذه الكلمة الجميلة الشجاعة قالها - صلى الله عليه وسلم - وهو في الغار مع صاحبه أبي بكر الصدّيق، وقد أحاط بهما الكفار، فقالها قوية في حزم، صادقة في عزم، صارمة في جزم: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) [التوبة 40]. فما دام الله معنا فلم الحزن ولم الخوف ولم القلق، اسكن.. اثبت.. اهدأ.. اطمئن، لأن الله معنا.
لا نُغلب، لا نُهزم، لا نضل، لا نضيع، لا نيأس، لا نقنط، لأن الله معنا، النصر حليفنا، الفرج رفيقنا، الفتح صاحبنا، الفوز غايتنا، الفلاح نهايتنا لأن الله معنا.
من أقوى منا قلبا، من أهدى منا نهجا، من أجلّ من مبدأ، من أحسن منا سيرة، من أرفع مان قدرا؟! لأن الله معنا.
ما أضعف عدوّنا، ما أذلّ خصمنا، ما أحقر من حاربنا، ما أجبن من قاتلنا، لأن الله معنا.
لن نقصد بشرا، لن نلتجئ إلى عبد، لن ندعو إنسانا، لن نخاف مخلوقا، لأن الله معنا.
نحن أقوى عدة وأمضى سلاحا، وأثبت جنانا وأقوم نهجا، لأن الله معنا.
نحن الأكثرون الأكرمون الأعلون الأعزّون المنصورون، لأن الله معنا.
يا أبا بكر اهجر همّك، وأزح غمّك، واطرد حزنك، وأزل يأسك، لأن الله معنا.
يا أبا بكر ارفع رأسك، وهدئ من روعك، وأرح قلبك، لأن الله معنا.
يا أبا بكر أبشر بالفوز، وانتظر النصر، وترقّب الفتح، لأن الله معنا.
غدا سوف تعلو رسالتنا وتظهر دعوتنا وتسمع كلمتنا، لأن الله معنا.
غدا سوف نُسمع أهل الأرض روعة الأذان وكلام الرحمن ونغمة القرآن، لأن الله معنا.
غدا سوف نخرج الإنسانية ونحرر البشرية من عبودية الأوثان، لأن الله معنا.
(وإنك لعلى خلق عظيم)
18- والله إنك لعظيم الأخلاق، كريم السجايا، مهذب الطباع، نقيّ الفطرة.
والله إنّك جمّ الحياء، حيّ العاطفة، جميل السيرة، طاهر السريرة.
والله إنك قمة الفضائل، ومنبع الجود، ومطلع الخير، وغاية الإحسان.
وإنك لعلى خلق عظيم.. يظلمونك فتصبر، يؤذونك فتغفر، يشتمونك فتحلك، يسبّونك فتعفو، يجفونك فتصفح.
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)) القلم.. يحبّك الملك والمملوك، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والغني والفقير، والقريب والبعيد، لأنك ملكت القلوب بعطفك، وأسرت الأرواح بفضلك، وطوّقت الأعناق بكرمك.
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).. هذبّك الوحي، وعلمك جبريل، وهداك ربك، وصاحبتك العناية، ورافقتك الرعاية، وحالفك التوفيق.
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).. البسمة على محياك، البِِشر على طلعتك، النور على جبينك، الحب في قلبك، الجود في يدك، البركة فيك، الفوز معك.
من زار بابك لم تبرح جوارحه *** تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرّة والكف عن صلة *** والقلب عن جابر والسمع عن حسن
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).. لا تكذب ولو أن السيف على رأسك، ولا تخون ولو حزت الدنيا، ولا تغدر ولو أعطيت الملك، لأنبي نبيّ معصوم، وإمام قدوة، وأسوة حسنة.
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).. صادق ولو قابلتك المنايا، وشجاع ولو قاتلت الأسود، وجواد ولو سئلت كل ما تملك، فأنت المثال الراقي والرمز السامي.
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).. سبقت العالم ديانة وأمانة وصيانة ورزانة، وتفوقت على الكل علما وحلما وكرما ونبلا وشجاعة وتضحية.
(ما أنت بنعمة ربك بمجنون)
19- لست مجنونا كما قال أعداؤك لكن عندك دواء المجانين، فلمجنون الطائش والسفيه التافه من خالفك وعصاك وحاربك وجفاك.
(مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) القلم.. وكيف يكون ذلك وأنت أكملهم عقلا، وأتمّهم رشدا، وأسدهم رأيا، وأعظمهم حكمة، واجلذهم بصيرة!.
وكيف تكون مجنونا وأنت أتيت بوحي يكشف الزيغ، ويزيل الضلال، وينسف الباطل، ويمحو الجهل، ويهدي العقل، وينير الطريق.
لست مجنونا أنك على هدى من الله، وعلى نور من ربك، وعلى ثقة من منهجك، وعلى بيّنة من دينك، وعلى رشد من دعوتك، صانك الله من الجنون، بل عندك كل العقل وأكمل الرشد وأتم الرأي وأحسن البصيرة، فأنت الذي يهتدي بك العقلاء، ويستضيء بحكمتك الحكماء، ويقتدي بك الراشدون المهديّون.
كذب وافترى من وصفك بالجنون وقد ملأت الأرض حكمة والدنيا رشدا والعالم عدلا، فأين يوجد الرشد إلا عندك؟ وأين تكون الحكمة إلا لديم؟ وأين تحلّ البركة إلا معك؟ أنت أعقل العقلاء، وأفضل النبلاء، وأجلّ الحكماء. كيف يكون محمد مجنونا وقد قدّم للبشرية أحسن تراث على وجه الأرض، وأهدى للعالم أجلّ تركة عرفها الناس، وأعطى الكون أبرك رسالة عرفها العقلاء:
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له *** وأنت أحييت أجيالا من الرمم
(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)
20- أنت يا محمد مهمّتك الهداية، ووظيفتك الدلالة، وعملك الإصلاح.. أنت تهدي الى صراط مستقيم، لأنك تزيل الشبهات وتطرد الغواية وتذهب الضلالة، وتمحو الباطل وتشيد الحق والعدل والخير.
أنت تهدي إلى صراط مستقيم، فمن أراد السعادة فليتبعك، ومن أحبّ الفلاح فليقتد بك، ومن رغب في النجاة فليهتد بهداك.
أحسن صلاة صلاتك، وأتمّ صيام صيامك، وأكمل حجّ حجك، وأزكى صدقة صدقتك، وأعظم ذكرك لربك.
وأنت تهدي الى صراط مستقيم.. من ركب سفينة هدايتك نجا، من دخل دار دعوتك أمن، من تمسّك بحبل رسالتك سلم. فمن تبعك ما ذلّ، وما ضلّ وزلّ وما قل، وكيف يذلّ والنصر معك؟ وكيف يضل وكل الهداية لديك؟ وكيف يزل والرشد كله عندك؟ وكيف يقلّ والله مؤيدك وناصرك وحافظك؟
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم لأنك وافقت الفطرة وجئت بحنيفية سمحة، وشريعة غرّاء، وملة كاملة، ودين تام.
هديت العقل من الزيغ، وطهّرت القلب من الريبة، وغسلت الضمير من الخيانة، وأخرجت الأمة من الظلام، وحرّرت البشر من الطاغوت.
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، فكلامك هدى، وحالك هدى، وفعلك هدى، و مذهبك هدى، فأنت الهادي إلى الله، الدال على طريق الخير، المرشد لكل برّ، الداعي إلى الجنة.
(يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك)
21- أدّ الرسالة كاملة كما سمعتها كاملة، بلّغها تامّة مثلما حملتها تامة، لا تنقص منها حرفا، ولا تحذف كلمة، ولا تغفل جملة.
بلّغ ما أنزل إليك فهي أمانة في عنقك سوف تُسأل عنها، فبلغها بنصّها وروحها ومضمونها.
بلّغ ما أنزل إليك من الوحي العظيم والهدى المستقيم والشريعة المطهّرة، فأنت مبلّغ فحسب، لا تزد في الرسالة حرفا، ولا تضف من عندك على المتن، لا تُدخل شيئا في المضمون، لأنك مرسل فحسب، مبعوث ليس إلا، مكلف ببلاغ، مسؤول عن مهمة. فمثلما سمعت بلغ، ومثلما حُمّلت فأدّ.
بلّغ ما أنزل إليك، عرف من عرف، وأنكر من أنكر، استجاب من استجاب وأعرض من أعرض، أقبل من أقبل وأدبر من أدبر.
بلغ ما أنزل إليك، بلّغ الكل وادع الجميع، وانصح الكافة، الكبراء والمستضعفين، السادة والعبيد، والإنس والجن، الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء، الكبار والصغار.
بلّغ ما أنزل إليك.. فلا ترهب الأعداء ولا تخف الخصوم، ولا تخش الكفار، ولا يهولك سيف مصلت، أو رمح مشرع، أو منية كالحة، أو موت عابس، أو جيش مدجج، أو حركة حامية.
بلّغ ما أنزل إليك فلا يغريك مال، ولا يعجبك منصب، ولا يزدهيك جاه، ولا تغرّك دنيا، ولا يخدعك متاع، ولا يردّك تحرّج.
وشبّ طفل الهدى المحبوب متّشحا *** بالخير متّزرا بالنور والنار
في كفّه شعلة تهدي وفي دمه *** عقيدة تتحدّى كلّ جبّار
وفي ملامحه وعد وفي يده *** عزائم صاغها من قدرة الباري
(وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته):
22- إذا لم تؤد الرسالة كاملة فكأنك ما فعلت شيئا، وإن لم توصلها تامّة فكأنك ما قمت بها حق القيام، ولو كتمت منها مقالة أو عطلت منها نصا أو أهملت منها عبارة فما بلّغت رسالة الله وما أدّيت أمانة الله، نريد منك أن تبلّغ رسالتنا للناس كما أُلقيت عليك، وكما نزل بها جبريل وكما وعاها قلبك.
(والله يعصمك من الناس):
23- بلغ الرسالة كاملة ولا تخف أحدا، وكيف تخاف من أحد ونحن معك نحفظك ونمنعك ونحميك ونذبّ عنك؟! لن يقتلك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يطفئ نورك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يعطّل مسيرتك أحد لأن الله يعصمك من الناس، اصدع بما تؤمر، وقل كلمتك صريحة شجاعة قوية لأن الله يعصمك من الناس. اشرح دعوتك، وابسط رسالتك، وارفع صوتك، وأعلن منهجك، وما عليك لأن الله يعصمك من الناس.
كل قوة في الأرض لن تستطيع لك، كلّ جبروت في الدنيا لا يهزمك، كل طاغية في المعمورة لن يقهرك، لأن الله يعصمك من الناس.
ظنّوا الحمام وظنّوا العنكبوت على *** خير البريّة لم ينسج ولم يحم
عناية الله أغنت عن مضاعفه *** من الروع وعن عالٍ من الأطم
(ألم نشرح لك صدرك)
24- أما شرحنا لك صدرك فصار وسيعا فسيحا لا ضيق فيه، ولا حرج ولا همّ ولا غمّ ولا حزن، بل ملأناه لك نورا وسرورا وحبورا.
أما شرحنا لك صدرك وملأناه حكمة ورحمة وإيمانا وبرا وإحسانا.
وشرحنا لك صدرك فوسعت أخلاق الناس، وعفوت عن تقصيرهم، وصفحت عن أخطائهم، وسترت عيوبهم، وحلمت على سفيههم، وأعرضت عن جاهلهم، ورحمت ضعيفهم.
شرحنا لك صدرك فكنت كالغيث جوادا، وكالبحر كرما، وكالنسيم لطفا، تعطي السائل، وتمنح الراغب، وتكرم القاصد، وتجود على المؤمّل.
شرحنا لك صدرك فصار بردا وسلاما يطفئ الكلمة الجافية، ويبرد العبارة الجارحة، فإذا العفو والحلم والصفح والغفران.
شرحنا لك صدرك فصبرت على جفاء الأعراب، ونيل السفهاء، وعجرفة الجبابرة، وتطاول التافهين، وإعراض المتكبرين، ومقت الحسدة، وسهام الشامتين، وتجهّم القرابة.
شرحنا لك صدرك فكنت بسّاما في الأزمات، ضحّاكا في الملمّات، مسرورا وأنت في عين العاصفة، مطمئنا وأنت في جفن الردى، تداهمك المصائب وأنت ساكن، وتلتفّ بك الحوادث وأنت ثابت، لأنك مشروح الصدر، عامر الفؤاد، حيّ النفس.
شرحنا لك صدرك فلم تكن فظا قاسيا غليظا جافيا، بل كنت رحمة وسلاما وبرا وحنانا ولطفا، فالحلم يُطلب منك، والجود يُتعلّم من سيرتك، والعفو يؤخذ من ديوانك.
(ووضعنا عنك وزرك):
حططنا عنك خطاياك وغسلناك من آثار الذنوب.
فأنت مغفور لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأنت الآن نقيّ طاهر من كل ذنب وخطيئة، ذنبك مغفور، وسعيك مشكور، وعملك مبرور، وأنت في كل شأن من شؤونك مأجور، فهنيئا لك هذا الغفران، وطوبى لك هذا الفوز، وقرة عين لك هذا الفلاح.
(الذي أنقض ظهرك):
أثقل هذا الوزر كاهلك، وأضنى ظهرك حتى كاد ينقضه ويوهنه، فالآن أذهبنا هذا الثقل وأزلنا هذه التبعة، وأعفيناك من هذا الخطب، وأرحناك من هذا الحمل، فاسعد بهذه البشرى، وتقبّل هذا العطاء، وافرح بهذا التفضّل.
(ورفعنا لك ذكرك):
لا أُذكر إلا تذكر معي، يقرن ذكرك بذكري في الأذان والصلاة والخطب والمواعظ، فهل تريد شرفا فوق هذا؟ يذكرك كل مصلّ وكل مسبّح وكل حاجّ وكل خطيب، فهل تطلب مجدا أعلى من هذا؟
أنت مذكور في التوراة والإنجيل، منوّه باسمك في الصحف الأولى والدواوين السابقة، اسمك يشاد به في النوادي، ويُتلى في الحواضر والبوادي، ويُمدح في المحافل، ويُكرر في المجامع.
رفعنا لك ذكرك فسار في الأرض مسير الشمس، وعبر القارات عبور الريح، وسافر في الدنيا سفر الضوء، فكل مدينة تدري بك، وكل بلد يسمع بك، وكل قرية تسأل عنك.
رفعنا لك ذكرك فصرت حديث الرّّكب، وقصة السّمر، وخبر المجالس، وقضية القضايا، والنبأ العظيم في الحياة.
رفعنا لك ذكرك فما نُسي مع الأيام، وما مُحي مع الأعوام، وما شُطب مع قائمة الخلود، وما نُسخ من ديوان التاريخ، وما أغفل من دفتر الوجود، نُسي الناس إلا أنت، وسقطت الأسماء إلا اسمك، وأغفل العظماء إلا ذاتك، فمن ارتفع ذكره من العباد عندنا فبسبب اتّباعك، ومن حُفظ اسمه فبسبب الاقتداء بك. ذهبت آثار الدول وبقيت آثارك، ومُحيت مآثر السلاطين وبقيت مآثرك، وزالت أمجاد الملوك وخلّد مجدك، فليس في البشر أشرح منك صدرا، ولا أرفع منك ذكرا، ولا أعظم منك قدرا، ولا أحسن منك أثرا، ولا أجمل منك سيرا.
إذا تشهّد متشهّد ذكرك معنا، وإذا تهجّد متهجّد سمّاك معنا، وإذا خطب خطيب نوّه بك معنا، فاحمد ربّك لأننا رفعنا لك ذكرك.
(فإن مع العسر يسرا* إن مع العسر يسرا):
إذا ضاقت عليك السبل، وبارت الحيل، وتقطعت الحبال، وضاق الحال، فاعلم أن الفرج قريب وأن اليسر حاصل.
لا تحزن، فإن بعد الفقر غنى، وبعد المرض شفاء، وبعد البلوى عافية، وبعد الضيق سعة، وبعد الشدّة فرحا.
سوف يصلك اليسر أنت وأتباعك، فترزقون وتنصرون وتكرمون ويفتح عليك، ولكن ليس يسر واحد بل يسران.
إنها سنة ثابتة وقاعدة مطّردة أن مع كل عسر يسرا، بعد الليل فجر صادق، وخلف جبل المشقة سهل الراحة، ووراء صحراء الضيق روضة خضراء من السعة، إذا اشتد الحبل انقطع، وإذا اكتمل الخطب ارتفع، سوف يصل الغائب، ويشفى المريض، ويعافى المبتلى، ويفكّ المحبوس، ويغنى الفقير، ويشبع الجائع، ويروى الظمآن، ويسرّ المهموم، وسيجعل الله بعد عسر يسرا.
وهذه السورة نزلت - عليه الصلاة والسلام - وهو في حال من الضيق، وتكالب الأعداء، واجتماع الخصوم، وإعراض الناس، وقلة الناصر، وتعاظم المكر، وكثرة الكيد، فكان لا بد له من عزاء وسلوة وتطمين وترويح، فنزلت هذه الكلمات له ولأتباعه إلى يوم القيامة وعدا صادقا وبشر طيبة، وجائزة متقبّلة:
اشتدي أزمة تنفرجي *** قد آذن ايلك بالبلج
(فإذا فرغت فانصب):
إذا انتهيت من أعمالك الدنيوية وأشغالك الشخصية فانصب لنا بالعبادة، وتوجّه لنا بالطاعة، وأكثر من ذكرنا ودعائنا.
إذا فرغت من الناس وقضايا الناس وأسئلة الناس فقم في محراب عظمتنا، وانطرح على بابنا، واقرب منا، ومرّغ جبينك لنا، لتلقى الفوز والفلاح والأمن والنجاة.
إذا فرغت من الأهل والولد والقريب والصاحب فاجعل لك وقتا معنا، ارفع فيه سؤالك، اعرض فيه حاجتك، أكثر فيه دعاءك، ادعنا وسبّحنا واطلبنا واستغفرنا واشكرنا واذكرنا.
إذا فرغت من الأحكام والقضايا والموعظة والفتيا والتعليم والإرشاد والجهاد والنصيحة، فتعال لتزداد من قوتنا قوة، ومن مددنا عونا، ومن رزقنا زادا، ومن فتحنا بصيرة وذخيرة.
نحن أولى بك منك، وأحق بفراغك من غيرنا، ويا له من توجيه له ولأتباعه - عليه الصلاة والسلام - في صرف الفراغ في العبودية، وملء هذا الزمن بذكره وشكره جلّ في علاه، ليحصل المقصود من الرضا والسكينة والفرج والعاقبة الحسنة وصلاح الحال والمال، وعمار الدنيا والآخرة.
(وإلى ربّك فارغب):
إلى ربك وحده فارغب، ولا ترغب من غيره شيئا، وإليه وحده فاتجه وعليه توكّل، وفيه فأمل، فإن الرغبة والرهبة لا تكون إلا إليه لأنه صاحب الثواب لمن أطاعه والعقاب لمن عصاه، والرغائب الجليلة لا يملكها إلا الله، فعنده مفاتح الخزائن ومقاليد الأمور، فهو أهل أن يدعى وأن يسأل وأن يؤمل وأن يقصد جلّ في علاه:
إليك وإلا لا تشدّ الركائب *** ومنك وإلا فالمؤمّل خائب
وفيك وإلا فالغرام مضيّعٌ *** وعنك وإلا فالمحدث كاذب
وقد تنزلت هذه الكلمات على رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في فترات عصيبة، وفي لحظات حاسمة عاشها - صلى الله عليه وسلم - وتجرّع غصصها وحسا مرارتها.
(إنا فتحنا لك فتحا مبينا)
25- لقد فتحنا لك يا محمد فتحا بيّنا ظاهرا مباركا، فتحنا لك القلوب فغرست بها الإيمان، وفتحنا لك الضمائر فبنيت فيها الفضيلة، وفتحنا لك الصدور فرفعت فيها الحق، وفتحنا لك البلدان فنشرت بها الهدى، وفتحنا لك كنز المعرفة وديوان العلم ومستودع التوفيق، وفتحنا بدعوتك القلوب الغلف والعيون العني والآذان الصمّ، وأسمعنا رسالتك الثقلين.
فتحنا لك فتدفّق العلم النافع من لسانك، وفاض الهدى المبارك من قلبك، وسحّ الجود من يمينك.
وفتحنا لك فحزت الغنائم وقسمتها، وجمعت الأرزاق ووزعتها، وحصلت على الأموال وأنفقتها.
وفتحنا لك باب العلم وأنت الأميّ الذي ما قرأ وكتب، فصار العلماء ينهلون من بحار علمك.
وفتحنا عليك الخير فوصلت القريب وأعطيت البعيد، وأشبعت الجائع وكسوت العاري، وواسيت المسكين، وأغنيت الفقير، بفضلنا ورزقنا وكرمنا.
وفتحنا لك القلاع والمدن والقرى، فهيمن دينك، وارتفعت رايتك، وانتصرت دولتك، فأنت مفتوح عليك في كل خير وبرّ وإحسان ونصر وتوفيق.
(فاعلم أنه لا إله إلا الله)
26- (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) [محمد 19]، فلا تشرك معه في عبوديته أحدا، ولا تعد من دونه إلها آخر، بل تصرف له عبادتك، وتخلص له طاعتك، وتوحّد قصدك له ومسألتك ودعاءك، فإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فلا يستحق العبادة إلا هو، ولا يكشف الضرّ غيره، ولا يجيب دعوة المضطر سواه.
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) فهو أحق من شُكر وأعظم من ذكر، وأرأف من ملك، وأجود من أعطى، وأحلم من قدر، وأقوى من أخذ، وأجلّ من قصد، وأكرم من ابتغي، فلا يدعى إله سواه، ولا رب يطاع غيره، فالواجب أن يُعبد وأن يُوحّد وأن يُخاف وأن يُطاع وأن يُرهب وأن يُخشى وأن يُحب.
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) المتفرد بالجمال والكمال والجلال، خلق الخلق ليعبدوه، وأوجد الإنس والجن ليوحّدوه، وأنشأ البريّة ليطيعوه، فمن أطاعه فاز برضوانه، ومن أحبّه نال قربه، ومن خافه أمن عذابه، ومن عظمه أكرمه، ومن عصاه أدّبه، ومن حاربه خذله، يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويذلّ من كفره، له الحكم وإليه ترجعون.
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) فأخلص له العبادة، لأنه لا يقبل الشريك، وفوّض إليه الأمر لأنه الكافي القويّ، واسأله فهو الغني، وخف عذابه لأنه شديد، واخش أخذه لأنه أليم، ولا تتعدّ حدوده لأنه يغار، ولا تحارب أولياءه، لأنه ينتقم، واستغفره فهو واسع المغفرة، واطمع في فضله لأنه كريم، ولذ بجنابه فهناك الأمن، وأدم ذكره لتنل محبته، وأدمن شكره لتحظى بالمزيد، وعظم شعائره لتفوز بولايته، وحارب أعداءه ليخصّك بنصره.
(إقرأ)
27- تبدأ قصة النبوة بكلمة: (اقْرَأْ) يوم نزلت على رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في الغار، ومن بداية (اقْرَأْ) بدأنا، بدأ تاريخنا ومجدنا وحياتنا، ومن تاريخ نزول (اقْرَأْ) بدأت مسيرتنا المقدّسة، وتغيّر بها وجه الأرض وصفحة الأيام ومعالم الدنيا، فتلك اللحظة هي أسعد لحظة في حياتنا نحن المسلمين، وهي اللحظة الفاصلة بين الظلام والنور، والكفر والإيمان، والجهل والعلم، واختيار اقرأ من بين قاموس الألفاظ وديوان اللغة له سر عجيب ونبأ غريب، فلم يكن مكان (اقْرَأْ) غيرها من الكلمات، لا " اكتب"، ولا "ادع" ولا "تكلم" ولا "قل"، ولا "اخطب".... إنما (اقْرَأْ)، ويا لها من كلمة جليلة جميلة أصيلة.
اقرأ يا محمد قبل أن تدعو، واطلب العلم قبل أن تعمل: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) [محمد 19].
إن (اقْرَأْ) منهج حياة، ورسالة حية لكل حيّ تطالبه بتحصيل العلم النافع وطلب المعرفة، وأن يطرد الجهل عن نفسه وأمته.
وأين يقرأ بأبي وأمي وما تعلّم على شيخ ولا درس كتابا ولا حمل قلما؟
يقرأ أولا باسم ربه كلام ربّه، فمصدره الأول الوحي يتلوه غضّا طريا، ويقرأ في كتاب الكون المفتوح ليرى أسطر الحكمة تخطها أقلام القدرة، فيقرأ في الشمس الساطعة، والنجوم اللامعة، والجدول والغدير، والتل والرابية، والحديقة والصحراء، والأرض والسماء:
وكتابي الفضاء اقرأ فيه *** صورا ما قرأتها في كتابي
وكلمة (اقْرَأْ) تدلك على فضل العلم وعلوّ مكانته، وأنه أول منازل الشرف الرافعة.
وإن كل سعادة وفلاح سببها العلم، فرسالته - صلى الله عليه وسلم - علميّة عمليّة، لأنه بعث بالعلم النافع والعمل الصالح: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث))[أخرجه البخاري 79 ومسلم 2282 عن أبي موسى - رضي الله عنه -].
فاليهود عندهم علم بلا عمل، فغضب عليهم، والنصارى لديهم عمل بلا علم فضلوا، فأمرنا بالاستعاذة من سبيل الطائفتين (غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة].
الرسول - صلى الله عليه وسلم - باكيا:
28- البكاء فضيلة عند رؤية التقصير أو خوف سوء المصير، وهو محمدة إذا تذكّر العبد ربه وخاف ذنوبه، ودليل على تقوى القلب وسمّو النفس وطهر الضمير ورقّة العاطفة، مدح الله رسله بالبكاء فقال: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً) [مريم].
ووصف أولياءه الصالحين بأنهم: (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً)[(109) الإسراء].
ولام أعداءه على القسوة والغلظة فقال: (أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون).
وأثنى على قوم، فقال: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ) [المائدة 83].
وسيد الخاشعين لربّ العالمين، وإمام الخائفين من مالك يوم الدين هو خاتم المرسلين - صلى الله عليه وسلم -. فقد كان نديّ الجفن، سريع العبرة، سخيّ الدمع، رقيق القلب، جياش العاطفة، مشبوب الحشا، تنطلق دمعته في صدق وطهر، ويسمع نشيجه في قنوت وإخبات، يترك بكاؤه في قلوب أصحابه آثارا من التربية والاقتداء والصلاح ما لا تتركه الخطبة البليغة والمواعظ المؤثرة، فهو يبكي - صلى الله عليه وسلم - عند تلاوة القرآن، فقد قام ليلة من الليالي يكرر قوله - تعالى -: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [(118)المائدة]، فيبكي غالب ليله.
وهو يبكي عند سماع القرآن، فقد صحّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لابن مسعود: ((اقرأ عليّ القرآن))، قال: كيف أقرؤه عليك وعليك أُنزل؟ قال: ((اقرأ فإني أحبّ أن أسمعه من غيري)) فيقرأ ابن مسعود من أول سورة النساء، حتى بلغ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً)[(41) النساء]. قال: ((حسبك الآن)) فنظرت فإذا عيناه تذرفان. [أخرجه البخاري [4582، 5055] ومسلم 800 عن عبد الله بن مسعود].
وهو يخشع - صلى الله عليه وسلم - عند سماع القرآن، فقد صح أنه قام ليلة يستمع لأبي موسى الأشعري وهو يقرأ القرآن ثم قال له في الصباح: ((لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود))[أخرجه البخاري 5048 ومسلم 793 عن أبي موسى].
فيقول أبو موسى: لو كنت أعلم أنك تستمع لي لحبّرته لك تحبيرا. أي: جوّدته وحسنته وجمّلته. هذه الزيادة أخرجها البيهقي في الكبرى [4484، 208421] وفي الشعب 2604.
وقال عبد الله بن الشخير في حديث صحيح: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي وبصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وهو القدر إذا استجمع غليانا.
ويحضر - صلى الله عليه وسلم - جنازة ابنته زينب، ويجلس على القبر وتذرف عيناه من هول المنظر، وتذكر العاقبة والتفكير في ذلك المصير، وأصحابه يشاهدون هذا المشهد المؤثر المعبّر منه - صلى الله عليه وسلم -.