بيان الكبائر وكون الشرك أقبح الذنوب
• عن عبدالله قال: سألتُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك))، قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: ((وأن تَقتل ولدَك تخاف أن يطعم معك))، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تُزاني حليلة جارك))[1].
• عن أنس - رضي الله عنه - قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكبائر، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور))[2].
• عن رُهْمٍ السَّمَعِي أن أبا أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - حدَّثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن جاء يعبد الله ولا يشرك به شيئًا، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويجتنب الكبائر؛ كان له الجنة))، فسألوه عن الكبائر؟ فقال: ((الإشراك بالله، وقتل النفس المسلمة، والفرار يوم الزحف))[3].
• عن عبيد بن عمير عن أبيه أنه حدَّثه - وكانت له صحبة - أن رجلاً سأله، فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ فقال: ((هن تسع)) فذكر معناه، زاد: ((وعقوق الوالدينِ المسلمينِ، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتًا))[4].
فيه مسائل:
المسألة الأولى: ترجمة أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -:
اسمه خالد بن يزيد بن كليب، شَهِد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المشاهد كلَّها، وكان مع عليِّ بن أبي طالب في الجَمَل وصِفِّين والنَّهْروان، وهو الذي نزل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قَدِم المدينة مهاجرًا إلى أن بنى مسجده ومساكنه[5].
آخَى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين مُصعَب بن عُمَير، وأمه هند بنت سعيد بن عمرو بن امرئ القيس، وهو مشهور بكنيته.
روى عنه من الصحابة: ابن عباس، وابن عمر، والبراء بن عازب، وأبو أمامة، وزيد بن خالد الجهني، والمقدام بن معدي كرب، وأنس بن مالك، وجابر بن سمرة، وعبدالله بن يزيد الخطمي.
ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبدالله، وأبو سلمة، وعطاء بن يسار، وعطاء بن يزيد، وغيرهم.
توفِّي بالقسطنطينية من أرض الروم سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، وقيل: اثنين وخمسين، وهو قول الأكثر، في خلافة معاوية تحت راية يزيد[6].
المسألة الثانية: معاني الكلمات:
قوله: (عن عبدالله): هو ابن مسعود [7].
قوله: (أي الشرك أعظم؟): وعند البخاري (4762): أي الشرك أكبر؟
قوله: ((نِدًّا)): بكسر النون؛ أي: نظيرًا في دعائك أو عبادتك.
قوله: ((وهو خلقك)): فوجود الخلق يدل على وجود الخالق، واستقامة الخلق تدل على توحيده؛ إذ لو كان إلهين لم يكن على الاستقامة.
قوله: ((أن تزاني حَلِيلة جارك)): بفتح الحاء المهملة وكسر اللام؛ أي: زوجته؛ لأنها تحل له.
قال في المصابيح: لعله نبَّه على شدة قبح الزنا إذا كان منه لا منها؛ بأن يغشاها نائمة أو مُكرَهة؛ فإنه إذا كان زناه بها مع المشاركة منها له والطواعية كبيرًا، كان زناه بدون ذلك أكبر وأقبح من باب الأولى[8].
وقال النووي: "سمِّيت بذلك؛ لكونها تحل له، وقيل: لأنها تحل معه، ومعنى ((تزاني))؛ أي: تزني بها برضاها، وذلك يتضمن الزنا، وإفسادها على زوجها، واستمالة قلبها إلى الزاني، وذلك أفحش، وهو مع امرأة الجار أشد قبحًا، وأعظم جرمًا؛ لأن الجار يتوقع من جاره الذبَّ عنه وعن حريمه، ويأمن بوائقه، ويطمئنُّ إليه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن غيره منه، كان غاية القبح"[9].
قوله: ((الكبائر)): جمع كبيرة، واختلف فيها، والأقرب: أنها كل ذنب رتب الشارع عليه حدًّا، أو صرَّح بالوعيد فيه[10].
قوله: ((عن عبيد بن عمير عن أبيه)): هو عمير بن قتادة السدوسي[11].
قوله: ((عقوق الوالدين)): مأخوذ من العق، وهو القطع.
وذكر الأزهري: أنه يقال: عق والده يعُقُّه بضم العين، عقًّا وعقوقًا؛ إذا قطعه ولم يصل رحمه، وجمع العاقِّ عَقَقَة بفتح الحروف كلها، وعُقُق بضم العين والقاف.
وقال صاحب المحكم: هو الذي شقَّ عصا الطاعة لوالده، هذا قول أهل اللغة، وأما حقيقة العقوق المحرم شرعًا، فقلَّ من ضبطه.
وقال الشيخ الإمام محمد بن عبدالسلام - رحمه الله -:
"لم أقف في عقوق الوالدين وفيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمده؛ فإنه يجب طاعتهما في كل ما يأمران به وينهيان عنه باتفاق العلماء، وقد حرم على الولد الجهاد[12] بغير إذنهما؛ لما يشق عليهما من توقع قتله، أو قطع عضو من أعضائه، ولشدة تفجعهما على ذلك، وقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه أو عضو من أعضائه".
وقال ابن الصلاح في فتاويه:
العقوق المحرَّم كل فعل يتأذى به الوالد أو نحوه تأذيًا ليس بالمهين، مع كونه ليس من الأفعال الواجبة، قال: وربما قيل طاعة الوالدين واجبة في كل ما ليس بمعصية، ومخالفة أمرهما في ذلك عقوق[13].
قوله: ((شهادة الزور))، وفي رواية: ((قول الزور، أو شهادة الزور)): قيل: المراد بالزور هنا الشرك، وقيل: الغناء، وقيل غير ذلك، قال الطبري: "أصل الزور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته حيث يخيل لمن سمعه بخلاف ما هو به"[14].
قوله: ((قتل النفس)): المراد قتلها بغير حق [15].
المسألة الثالثة: تعريف الكبيرة وحدُّها:
الكبيرة: جمع كبائر، والمراد بها كبائر الذنوب، وهذا يعني أن الذنوب تنقسم إلى كبائرَ وصغائر، وقد دل على ذلك القرآن، قال - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ﴾ [النجم: 32].
والكبائر ليست على درجة واحدة؛ فبعضها أعظم وأكبر وأقبح من بعض، وقد اختلف العلماء في تعريف الكبيرة على أقوال:
أصحها - كما قرره المحققون -: أن الكبيرة كل ذنب وجب فيه حدٌّ في الدنيا، أو وعيد في الآخرة بالنار، أو اللعنة، والغضب، أو قال فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا))، أو نفى الإيمان عن فاعله.
وقال الناظم:
فما فيه حدٌّ في الدُّنا أو توعُّدٌ 
بأُخرى فسمِّ كبرى على نص أحمدِ 
وزاد حفيدُ المجد أو جا وعيدُه 
بنفيٍ لإيمانٍ ولعنٍ لمبعَدِ 
وأصل المسألة: هل الكبائر معدودة أم محدودة؟
فقال بعضهم: إنها معدودة، وسار يعددها ويتتبع النصوص الواردة في ذلك.
وممن فعل ذلك الإمام الذهبي في كتابه "الكبائر"؛ حيث قال في المقدمة: فتعين علينا الفحص عن الكبائر ما هي؛ لكي يجتنبها المسلمون، فوجدنا العلماء - رحمهم الله تعالى - قد اختلفوا فيها فقيل: هي سبع، واحتجوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اجتنبوا السبع الموبقات))[16]، وقال ابن عباس: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع[17]، وصدق والله ابن عباسٍ.
وقال بعضهم: إنها محدودة، وقد حدَّها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فقال: كل ما رتب عليه عقوبة خاصة، سواء كانت في الدنيا أو في الآخرة، وسواء كانت بفوات محبوب أو بحصول مكروه.
وقال ابن عبدالسلام الشافعي: لم أقفْ على ضابط سالم من الاعتراض، والضابط الذي قاله شيخ الإسلام وغيره من أنها ما فيها حد، أو وعيد، أو لعن، أو تبرؤ، أو ليس منا، أو نفي إيمان، من أسلم الضوابط[18].
المسألة الرابعة: الشرك:
تعريفه: لغة: يدل على المقارنة التي هي ضد الانفراد، وهي أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما.
اصطلاحًا: أن يتخذ العبد لله ندًّا يسويه به في ربوبيته، أو ألوهيته، أو أسمائه وصفاته.
واعلم - رحمك الله - أن الشرك نوعان: نوع أكبر، وآخر أصغر:
أما الأول: وهو الشرك الأكبر، فهو الأخطر والأعظم، وهو من نواقض الإيمان والتوحيد، فمَن أتى منه شيئًا، كان كافرًا مرتدًّا عن الإسلام؛ فكن منه على حذرٍ؛ فمن أمثاله: الكفر الأكبر، والنفاق الأكبر، وهو الاعتقادي.
أما النوع الثاني: وهو الأصغر، فهو من منقصات الإيمان والتوحيد، فهي تنافي كمال الإيمان، ولا تنقصه بالكلية، ومن أمثاله: الكفر الأصغر، والنفاق الأصغر، وهو العملي.
أقسام الشرك الأكبر:
أولاً: الشرك في ربوبيته: وهو أن يجعل لغير الله نصيبًا من الملك، أو الخلق، أو الرزق؛ مثل: شرك النصارى الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، وشرك الذين يزعمون أن الإنسان يخلق أفعاله، وشرك كثيرٍ من غلاة الصوفية والرافضة من عبَّاد القبور، الذين يعتقدون أن أرواح الأموات تتصرف بعد الموت، فتقضي الحاجات، وتفرج الكربات، ومثل الاعتقاد في الاستسقاء بالنجوم، وذلك باعتقاد أنها مصدر السقيا، وأنها التي تُنزل الغيث بدون مشيئة الله - تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
ثانيًا: الشرك في الأسماء والصفات: هو أن يجعل لله - تعالى - مماثلاً في شيءٍ من الأسماء والصفات، أو يصفه - تعالى - بشيء من صفات خلقِه؛ فمَن سمَّى الله باسم من أسماء المخلوقات، معتقدًا اتصافَ هذا المخلوق بما دل عليه هذا الاسم مما اختص الله - تعالى - به نفسه، أو وصفه بصفة من صفات الله - تعالى - الخاصة به، فهو مشرك في الأسماء والصفات.
ومن أمثلة الشرك بدعوى علم الغيب، أو باعتقاد أن غير الله يعلم الغيب: فعل الكهنة والمنجمين.
ثالثًا: الشرك في الألوهية: وهو اعتقاد أن غير الله - تعالى - يستحق العبادة، أو صرف شيء من العبادة لغير الله، ومن أمثلته: مَن ينذر لغير الله، ومَن يدعو غير الله، ومَن يستعين بغير الله، وغير ذلك مما يقع فيه جهَّال الناس، والروافض، والصوفية.
يتبع
تايم فيور timeviewer تيم فيور timeviewer - meet experts