والقرآن أُنزل ليعمل به كما قال الحسن البصري رحمه الله : « أُنزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس قراءته عملا» ، القرآن أنزل ليعمل به ، ليُتأدب بآدابه ، ليُتخلَّق بالأخلاق التي دعا إليها ، ليتربى العبد على هذه المائدة المباركة ، أما أن يكون حظه من القرآن مجرد تلاوة مجرد قراءة مجرد حفظ دون فهمٍ للمعاني ودون عملٍ بالمقاصد والدلالات لا يكون بذلك من أهل القرآن ، ولهذا يحتاج العبد في هذا المقام إلى عناية عظيمة بتدبر القرآن وتأمل معانيه ليتحقق له فعلاً الانتفاع بالقرآن . وتأمل معي في هذا الباب قول الله سبحانه وتعالى : {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } [المائدة:15] من ينتفع به ؟ من الذي يتحقق له الانتفاع بهذا الكتاب بهذا النور بهذا الضياء بهذا المبين لكل خيرٍ وفلاح وسعاة في الدنيا والآخرة ؟ من هو الذي ينتفع ؟ أكُلُّ أحدٍ ينتفع؟ {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة:15-16] ، ليس كل أحدٍ يتحقق له الانتفاع ، وإنما الذي ينتفع هو الذي يتَّبع رضوان الله ، أي : يقرأ القرآن وهو يطلب رضوانه الله ، يقرأ القرآن وهو يعمل على تحقيق مرضاة الله ، يقرأ القرآن وهو يسعى للفوز برضا الله سبحانه وتعالى ، يقرأه متبعاً لمرضاة الله عاملاً على نيل مرضاة الله . ورضا الله سبحانه وتعالى لا ينال بمجرد قراءة حروف القرآن مع هجر القرآن في التدبر لمعانيه وهجر القرآن في العمل بما دل عليه . ولهذا جاء في الحديث في صحيح مسلم أن نبينا صلوات الله وسلامه عليه قال : ((إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)) يعني هذا يقرأ القرآن وهذا يقرأ القرآن ، وهذا يرفعه الله بالقرآن وهذا يضعه الله بالقرآن ؛ ((إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)) كيف يكون ذلك ؟ وهذا يبين لك تفاوت الناس مع هذا الكتاب كما قال في الحديث الآخر وكلاهما في صحيح مسلم : ((الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)) أي إن عملت به كان حجةً لك ، وإن لم تعمل به كان حجة عليك ، ولهذا قال بعض السلف أخذاً من هذين الحديثين : «ما جلس أحدٌ على هذا القرآن إلا قام منه إما بزيادة أو بنقصان» بزيادة إن عمل به ، وبنقصان إن هجر القرآن وهجر العمل بالقرآن وهجر ما دعاه إليه القرآن الكريم من هدايات مباركة وتوجيهات عظيمة . ولهذا جاء رجل إلى ابن مسعود رضي الله عنه يطلب الوصية قال أوصني ، قال : «إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ؛ فَإِنَّهُ إِمَّا خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ تُنْهَى عَنْهُ» .
أذكر -والكلام هذا له أكثر من خمس وعشرين سنة- كنت أدرِّس في المرحلة المتوسطة فجاءني طالب وبيده أوراق تبلغ الثلاثمائة ورقة مكتوب عليها : (الأوامر والنواهي في القرآن) وقدَّمها لي -طالب في الأولى متوسط أو الثانية متوسط- قلت ما هذا ؟ قال : هذه الأوامر في القرآن والنواهي جمعتها ، فقلت له مرحلة التأليف ليست الآن ، قال : "أنا لا أؤلف ، أنا أحفظ القرآن وأجد أن الله يأمرني فيه بأوامر وينهاني عن النواهي فأردت أن أفقه ما يأمرني الله سبحانه وتعالى به وما ينهاني عنه ؛ فأخذت أجمع كل أمر يمر عليَّ في القرآن وكل نهي وأرجع إلى كلام الإمام ابن سعدي في تفسيره والإمام ابن كثير في تفسيره وأنقل كلامهم لأتفقه في ذلك ، وأريد أن تصحح لي هذه الطريقة" . فيقول ابن مسعود « إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ؛ فَإِنَّهُ إِمَّا خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ تُنْهَى عَنْهُ» أما إذا كان يمر العبد على {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}مشتملةً على أمرٍ أو مشتملة على نهي ويمضي وكأنَّ هذا لا يعنيه !! ولا يقف ليعرف ماذا الذي أمره الله به وهل قام به وهل فعله ؟ وما هذا الذي نهاه الله عنه وهل تركه واجتنبه ؟ يحاسب نفسه في ضوء هدايات القرآن . ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في وصيةٍ له نافعة من أجل الانتفاع بالقرآن ؛ كيف تنتفع بالقرآن ؟ يقول رحمه الله : « إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه , وألقِ سمعك , واحضُر حضور من يخاطبه به من تكلّم به سبحانه منه إليه » ، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] ، فمن كانت هذه حاله مع كتاب الله سبحانه وتعالى فإنه ينتفع فعلاً ويستفيد وتؤثر فيه هدايات القرآن الكريم ، يقول رحمه الله : « إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه, والق سمعك , واحضر حضور من يخاطبه به من تكلّم به سبحانه منه إليه » .
أحد العلماء أراد أن يوضح هذا المعنى وقال : لو قدِّر أن إنساناً جاءه خطاب بلُغة لا يُحسنها من ملِك من ملوك الدنيا أو رجل من العظماء في هذه الحياة الدنيا والكبار موجَّه إليه ، وصله الخطاب قيل له : هذا خطاب وصلك من فلان ماذا يصنع به ؟ أترون أنه يلقيه جانباً ولا يبالي ؟ أو أنه يبحث عمن يترجم له هذا الخطاب ومن يبين له مفاد هذا الخطاب ؟ والقرآن وحي من رب العالمين ، والفرق بين كلام الله وكلام خلقه كالفرق بين الله وبين المخلوقين ؛ ولهذا ينبغي على العبد أن يستشعر هذا المعنى وأن يستشعر أن هذا القرآن هدايات للبشر في صلاح أحوالهم في صلاح أمورهم في صلاح شؤونهم في تهذيبهم تأديبهم تربيتهم على الأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة ثم يجاهد نفسه على تحقيق ذلك والتحلي به والتأدب بآداب القرآن الكريم .
وأختم هذا الحديث حول هذا الموضوع -وأشرت في مقدِّمته إلى أنه موضوع واسع- بذِكر بعض الآيات الجوامع للآداب والأخلاق ، وكنت أيضاً أرغب في الحديث ببعض البسط في معاني بعض هذه الآيات ولكن يبدو أن الوقت ضاق علينا لكنني أذكرها للإخوة الكرام ، وليكن هذا اللقاء دعوةً إلى تدبر هذه الآيات وامتداداً لهذا الحديث تُراجع كتب التفسير ولاسيما تفسير الإمام ابن كثير والإمام ابن سعدي وغيرهما من التفاسير المعتمدة .
من الآيات الجوامع في باب الآداب والأخلاق قول الله سبحانه : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } [النحل:90] .
قول الله سبحانه وتعالى : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ، واقرأ كلام الإمام بن سعدي رحمه الله تعالى عن هذه الآية ودلالاتها في كتابه التفسير ، وأيضا في كتابه الرياض الناضرة .
وقول الله سبحانه : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت:34-35] .
قول الله سبحانه وتعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [الإسراء:23] إلى تمامها .
وقول الله سبحانه وتعالى : {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ } [الإسراء:53] .
وقول الله سبحانه وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40] .
وليقرأ في هذا الباب وصايا لقمان الحكيم لابنه . وليقرأ غير ذلك من الآيات والهدايات في كتاب رب العالمين.
وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وبأنه الله الذي لا إله إلا هو الذي وسع كل شيء رحمةً وعلما أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وصلاح نفوسنا وهدايةً لنا وزكاءً ورفعة ، وأن يجعلنا بمنِّه وكرمه وفضله من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته ، وأسأله تبارك وتعالى أن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأن يصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، وأن يجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر . اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت ، اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء ، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها . اللهم أعِنَّا ولا تُعن علينا ، وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا تمكر علينا ، واهنا ويسِّر الهدى لنا ، وانصرنا على من بغى علينا ، اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين ، إليك أواهين إليك منيبين ، لك مخبتين لك مطيعين ، اللهم تقبَّل توبتنا ، واغسل حوبتنا ، وثبِّت حجتنا ، واهد قلوبنا وسدِّد ألسنتنا ، واسلل سخيمة صدورنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا ، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا .
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .