وَاجِبُنَا نَحْوَ مَا أَمَرَنَا اللهُ بِهِ
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتُوب إليه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا وسيِّئاتِ أعمالنا، من يهدهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له ، وأشهد أن لا إلـٰه إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
اللَّهمَّ لا علم لنا إلَّا ما علَّمتنا ، اللَّهم علِّمنا ما ينفعنا وزدنا علمًا ، واجعل ما نتعلَّمه حجةً لنا لا علينا يا ذا الجلال والإكرام ، وأَصْلح لنا شأننا كلَّه ، اللَّهم فقِّهنا في الدِّين ووفِّقنا لطاعتك يا ذا الجلال والإكرام ، وأعِذنا من الفتن كلِّها ما ظهر منها وما بطن.
أيُّها الإخوة الكرام : موضوعنا في هذه الليلة الطيبة في هذا المسجد المبارك موضوع عظيم للغاية يحتاج إليه كلُّ مسلم ومسلمة ألا وهو :
[ واجبنا نحو ما أمرنا الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى به ]
ما الذي يجب علينا نحو ما أُمِرنا به في كتاب ربِّنا وسنة نبيِّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
وبين يدي هـٰذا الموضوع الجليل أذكِّر بأمر يحسُن التَّذكير به بين يدي هـٰذا الموضوع ألا وهو - أيُّها الإخوة - : أنّ الله عزَّ وجلّ لم يخلق هـٰذا الخلقَ باطلًا ولم يوجِدْه عبثًا ولعبًا تنزَّه وتقدَّس ربُّنا عن ذلك ؛ بل خلق تَبَارَكَ وَتَعَالَى الخلقَ بالحقِّ وللحقِّ ، قال اللهُ تعالى : {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [النحل:3] .
ونزّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى نفسَه في آيٍ كثيرة من كتابه سبحانه عن أن يكون خلق هـٰذا الخلق باطلًا أو أوجده لعبًا ، قال الله عزَّ وجلَّ : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ص:27-28] ، فبيَّن سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنّ هـٰذا ظنّ الكافرين وعقيدة أهل الكفر، يظنّون ويعتقدون أنّهم إنَّما خُلِقُوا للَّهو واللَّعب والعبَث، وأنّهم إنَّما خُلِقُوا للباطل ، وأنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّما خلق هـٰذه المخلوقات باطلًا ؛ أي لا لحكمة ولا لغاية، ولهـٰذا قال: ﴿ ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أي: هم الذين يظنّون بربِّ العالمين هـٰذا الظَّن الآثم ويعتقدون فيه هـٰذا الاعتقاد الباطل ﴿ ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ، ثم تهدَّدهم قال: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ ، وقال جلّ وعلا في آية أخرى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء:16-17] .
وجَاء في القرآن ثناء الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى على عباده المتّقين وأوليائه المؤمنين وحزبه المقرَّبين أولي الألباب السَّليمة والعقول المستقيمة ، وأنّهم من جلائل أعمالهم التفكُّر في خلق السّمٰوات والأرض والإيمانُ الرّاسخ بأنَّها لم تُخلق باطلًا ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران:190-191] .
﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا ﴾ ؛ أي لم توجِد هـٰذا الخلق وهـٰذه الكائنات وهؤلاء النَّاس وهـٰذه المخلوقات باطلًا، تعاليت وتنزّهت وتقدّست عن ذلك ، ﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ ﴾ أي نُنزِّهك ونقدِّسك يا ربَّنا ﴿ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
وتأمَّل هنا هـٰذه الوَسيلة العظيمة التي يتوسَّل بها أولوا الألباب إلى الله بأن يَقيهم عذابَ النَّار ﴿ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ يتوسَّلون إلى الله في طلبهم الوقاية من عذاب النَّار بتنزيهه تَبَارَكَ وَتَعَالَى من أن يكون خَلَق هـٰذه المخلوقات باطلًا ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ وهـٰذه وسيلة عظيمة يتوسَّل بها أهل الإيمان إلى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بأن يَقيهم من عذاب النَّار ؛ وفي هـٰذا سرّ عظيم يحسن التنبُّه له ألا وهو: أنَّ هـٰذه العقيدة - عقيدة أهل الإيمان بأن الله لم يخلق هـٰذا الخلق باطلا - لها أثرها عليهم في أعمالهم ، في أخلاقهم ، في سلوكهم، في عباداتهم، وفي الوقت نفسه عقيدة أهل الكفر أن هـٰذه المخلوقات خُلقت باطلًا لها أثرها عليهم في أعمالهم وأخلاقهم وعباداتهم وسلوكهم؛ فالمؤمن الذي يؤمن بأنَّ هـٰذا الخلق لم يُخلق باطلًا ولم يوجد عبثًا ؛ إيمانه هـٰذا يجعله يَجدُّ ويجتهدُ وينشط فيما خُلق له وأوجد لتحقيقه ، ومن يعتقد أنَّ هـٰذه المخلوقات خُلقت باطلًا ويظن هـٰذا الظَّنَّ فإنَّ عقيدته وظنّه تُوقعه في أعظم الرَّدى وأشد الهلاك في دنياه وأخراه ؛ ولهـٰذا كان من أعظم الوسائل إلى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في طلب الوقاية من النَّار الإيمان الرَّاسخ بأنَّ الله لم يخلق هـٰذا الخلق باطلا بل خلقه بالحقِّ وللحقِّ ؛ مما يُثمر في المؤمن عملًا صالحًا ، طاعاتٍ زاكية ، وحُسن تقرُّبٍ إلى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى .
والكفَّار الذين ظنُّوا بالله هـٰذا الظَّن الآثم المشار إليه في قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ [ص:27] تهدَّدهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بالنَّار يوم القيامة ودخول جهنَّم والخلود فيها أبد الآباد ؛ ولهـٰذا إذا دخلوا النَّار يوم القيامة وذاقوا العذاب وتقطَّعت بهم الأسباب وضاقت بهم الحيَل يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لهم وهم في النَّار : ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ [المؤمنون:115-116] هـٰذا كلامٌ يقوله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يوم القيامة لأهل النَّار وهم في النَّار .
وإذا تأمَّلت السِّياق الذي وردت فيه هـٰذه الآية من خواتيم سورة المؤمنون أدركت ذلك ؛ لأنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر حال النَّاس يوم القيامة حين يقومون لربِّ العالمين وحين يقدُمون على الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وأنّهم ينقسمون إلى فريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السَّعير ، وبيَّن تَبَارَكَ وَتَعَالَى حال كلٍّ منهما في آيات عظيمات ؛ قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا ﴾ أي من النَّار ﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ﴾ أي الله ﴿ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)﴾ والخطاب للكفَّار أهل النَّار ، كم مدَّة بقائكم في الدُّنيا؟ ﴿ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) ﴾ اسأل الملائكة الذين كانوا يعدّون علينا الأيَّام والأعمال والأوقات ويكتبون ﴿ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾ هـٰذا كلامٌ يقوله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لأهل النَّار وهم في النار ؛ ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾ أي لا لحكمة ولا لغاية!! أهكذا ظنُّكم بربِّ العالمين؟! أنَّه يخلق الخلق ويوجِد هـٰذه الكائنات عبثًا لا لحكمة ولا لغاية؟! هـٰذا قولٌ للمفسرين في معنى هـٰذه الآية ، وقول آخر : ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ﴾ أي للعبث، أي: أظننتم واعتقدتم أنَّكم إنَّما خُلقتكم لأجل أن تعبثوا وتلعبوا؟! لأجل هـٰذا خلقكم الله!! ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ ﴾ أي: تنزّه وتقدَّس عن ذلك ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ (الحق) اسم من أسماء الله ، ولهـٰذا كان نبيُّنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ يقول إذا تهجَّد في قيامه الليل: «أنت الحقّ، ووعدك حقّ، وقَولُك حقّ، ولقاؤك حقّ، والجنة حقّ، والنّار حقّ، والسَّاعة حقّ، والنّبيُّون حق، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقّ» قال: «أنت الحقُّ» ، قال الله جلَّ وعلا: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ﴾ [الحج:6] ، قال جلَّ وعلا: ﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ﴾ [الرعد:14] قال: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ أي لا معبود بحق سواه ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) ﴾ [المؤمنون:101-118] ؛ نسأل الله أن يغفر لنا وأن يرحمنا أجمعين.
أيضا ممّا بيَّنه اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى في القرآن في هـٰذا الأمر العظيم : قوله جلَّ وعلا: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة:36] أي : أيظنّ ويعتقد أن يُترك سدى؟!
- قيل: أي لا يُؤمر ولا يُنهى. هـٰذا قول.
- وقيل: ﴿ سُدًى﴾ أي: لا يُبعث يوم القيامة.
قال ابن كثير رحمه الله : والآية تحتمل المعنيين ؛ ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ أي لا يُؤمر ولا يُنهى!! ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ أي لا يُبعث يوم القيامة !! هـٰذا لا يكون ؛ بل خلق الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الإنسان ليأمره وينهاه ، ثم إنَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى يبعث النَّاس يوم القيامة ويقومون بين يدي ربِّ العالمين ليجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وهيهات أن يسوِّي ربُّ العالمين بين محسن ومسيء، بين برّ وفاجر، بين مطيع وعاصي ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ص:28] هـٰذا لا يكون، هـٰذا أمر يُنزه عنه ربّنا تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
أيُّها الإخوة الكرام : هـٰذه الآيات ونظائرها في كتاب رِّبنا عزَّ وجلَّ فيها إيقاظ للقلوب وتبصرة للنَّاس ، فيها تنبيه للغافل وتذكير للمؤمن ، فيها بيانٌ لحقيقة عظيمة ينبغي أن تكون حاضرةً في الذِّهن كي لا تمضي بالإنسان سنونه وأيامه وأوقاته في الضَّياع والباطل ، فالإنسان لم يُخلق للباطل ولم يوجد للعبث .
وإذا أدرك المسلم هـٰذا الأمر واستحضره وأيقن أنَّه مخلوق ليؤمر ويُنهى، خلقه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ليأمره وينهاه ؛ فما الذي يجب عليه نحو ما أمره الله به ، ونحو ما نهاه الله عنه؟ هـٰذا موضوع الحديث في هذا اللقاء .
الواجب على كلِّ مسلم ومسلمة نحو ما أمره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى به أمورٌ سبعة عظيمة ، فكلُّ ما أمرنا الله به وكلُّ ما نهانا الله عنه يجب علينا نحوه أمورٌ سبعة لابدّ منها ، نعتني بها حفظًا وفهمًا وتطبيقًا ، وقد بيَّن هـٰذه الأمور السّبعة بيانًا عظيماً ووضحَّها توضيحًا نافعًا الإمامُ المجدِّد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهّاب رحمه الله وغفر له ، أمورٌ عظام يجب على كل مسلم أن يعرفها وأن يعيَها وأن يطبقها نحو كلِّ ما أمرنا الله تبارك وتعالى به :
أمَّا الأمر الأول فيما يجب علينا نحو ما أمرنا الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى به : هو أن نتعلَّمه، وهـٰذا أوَّل واجبٍ وبه يُبدأ ، ولهـٰذا قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [محمد:19] فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، ومن لم يتعلَّم ما أمره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى به ولم يتعلَّم ما نهاه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنه كيف يفعل المأمور وكيف يترك المنهي؟! كما يقال: «فاقد الشيء لا يعطيه»، وكما يقال: «كيف يتَّقي من لا يدري ما يتَّقي؟ » . ولهـٰذا أوَّل واجب علينا نحو ما أمرنا الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى به أن نتعلَّمه .
ولهـٰذا جاءت الآيات الكثيرة والأحاديث العديدة عن رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحض على العلم والحثّ عليه والتَّرغيب فيه وبيان فضله وذكر فوائده وثماره وآثاره ؛ ومن ذلكم قول نبيِّنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقا إلى الجنة» ، قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ «من يُرد الله به خيرا يفقهه في الدِّين»، وقد صحّ عن نبيِّنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ أنه كان يقول كل يوم بعد صلاة الصبح: «اللهم إنِّي أسألك علمًا نافعًا ورزقًا طيِّبًا وعملًا متقبَّلًا » يسأل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى كل يوم ، وقد قال الله له في القرآن: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114] وأوَّل آية نزلت عليه ﴿اقْرَأْ ﴾ [العلق:1] أمرٌ بالقراءة والتعلُّم وطلب العلم.
ولاحظ هنا في هـٰذا الدُّعاء بدأ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بالعلم النَّافع قبل الرِّزق الطّيب وقبل العمل الصّالح أو العمل المتقبَّل ؛ لأنَّ العلم النّافع هو الذي يمِيز به المسلم بين الرِّزق الطيِّب والخبيث ، وبين العمل الصّالح وغير الصَّالح ، ومن لم يكن عنده علم نافع كيف يَمِيز بين حقٍّ وباطل وطيِّب وخبيث! ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر:9] ، ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ﴾ [الرعد:19] ، ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الملك:22] .
فإذاً العلم أساسٌ عظيم ومطلبٌ جليل يجب على كلِّ مسلم ومسلمة أن يحرص عليه، ولهـٰذا نصح العلماء أن يكون للمسلم حظٌّ من العلم في أيّامه كلِّها ، يحرص أن لا تغيب عليه شمس يوم لا يحصِّل فيه علمًا ، العلم مطلوب منك يوميًّا ، ودليل ذلك واضح في دعاء نبيِّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل يومٍ بعد صلاة الصبح «اللهم إنِّي أسألك علما نافعا» ؛ ولهـٰذا ينبغي أن يكون في برنامج المسلم اليومي طلب العلم، وأن يكون له حظ من التعلُّم وطلب العلم في أيَّامه ، لا يفوِّت.