حبل الله الممدود
إنَّ الحمد لله نـحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله ؛ صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ أمَّا بعد :
فهـٰذه أمسية طيبة وساعة كريمة في هذه الليلة الفاضلة من ليالي شهر رمضان المبارك ، ومع موضوعٍ جليل القدر عظيم الفائدة كبير النفع له صلة بشهرنا الكريم وموسمنا الفاضل ، وعنوان هذا اللقاء :
[حبل الله الممدود ]
وحبل الله الممدود الذي هو عنوان هذه المحاضرة هو كتاب الله جل وعلا ؛ القرآن الكريم ، وقد جاء تسميته بهـٰذا الاسم في السُّنَّة الصَّحيحة الثَّابتة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ((كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ )) ، وروى الإمام مسـلم في صحيحه من حديث زيد ابن أرقم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : (( أَلَا وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ : أَحَدُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ مَنْ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى ، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ )) ، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه بإسنادٍ على شرط مسلم من حديث أبي شُريح الخزاعي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ((أَبْشِرُوا أَبْشِرُوا ، أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ )) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (( فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ – أي حبل - طَرَفُهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَتَمَسَّكُوا بِهِ ، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا وَلَنْ تَهْلِكُوا بَعْدَهُ أَبَدًا)) .
معاشر الإخوة الكرام : يأتي هذا الموضع العظيم بهذا العنوان [حبل الله الممدود ] في هذه الأيام المباركات أو الليالي المباركات ليالي شهر رمضان المبارك ، وكلنا نعلم أن شهر رمضان له خصوصية بالقرآن الكريم ، يقول الله جلَّ وعلا: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة:185] ، ويقول جلَّ وعلا : ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان:3] ، ويقول جلَّ وعلا : ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر:1-3] ، فالقرآن الكريم أُنزل في شهر رمضان ، وهو أعظم كتاب أنزله الله سبحانه وتعالى على أعظم رسول في أفضل شهر وفي أفضل ليلة ، فليلة القدر هي خير ليالي السَّنة على الإطلاق، وهي الليلة التي أنزل فيها القرآن ، والمراد بإنزاله : أي إلى بيت العزَّة في السماء الدنيا ؛ لأن القرآن نزل جملةً واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزَّة ثم نزل منجَّمًا خلال عشرين سنة بحسب الأمور والأحوال والوقائع والحوادث ونـحو ذلك ، كما جاء بذلك الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن غيره في تقرير هـٰذا المعنى .
وهـٰذا يُبيِّن لنا أنَّ شهر رمضان المبارك له خصوصية في القـرآن ، ولهـٰذا كان جبريل يأتي نبيَّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هـٰذا الشَّهر ويُدارسه القرآن ، وقد جاء في الحديث الصَّحيح : ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ)) ، ولهـٰذا أيضًا كانت عناية السَّلف بالقرآن تعظم في هـٰذا الشَّهر ؛ شهر القرآن وموسم القرآن ، وكانوا يتنافسون على ختم كتاب الله عزَّ وجلَّ في هـٰذا الشَّهر الفاضل مرَّات عديدة مع التَّدبُّر لآياته ، والتَّأمُّل في دلالاته ، ومجاهدة النَّفس على العمل بهـٰذا الكتاب العظيم ؛ كتاب الله جلَّ وعلا.
والقرآن – أيها الإخوة الكرام - كتابٌ أنزله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هداية للبشرية ، وصلاحًا للنَّاس ، وذكرى للمؤمنين ، وشفاءً لما في الصُّدور ، وضياءً ونورًا وبركةً لمن كان من أهله ، قال الله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾[ص:29] ، وقال جل وعلا : ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء:9] .
وهـٰذا الكتاب العظيم أنزله الله تبارك وتعالى لعباده ليكون منهجًا لهم في حياتهم ، في أخلاقهم ، في آدابهم ، في معاملاتهم ، في تعبُّدهم وتقربهم إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، ولهـٰذا لما سُئِلت أمّ المؤمنين عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها عن خُلق نبيِّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت : ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ)) ، ومعنى كلامها رضي الله عنها وأرضاها ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ)) : أي أن كل ما تراه في القرآن من عبادةٍ وخُلقٍ وأدبٍ ومعاملةٍ إلى غير ذلك ، كلّ ذلكم اتصف به نبيِّنا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على التَّمام والكمال ، فكان أعبد الناس لله ، وأكثرهم لله خشية ، وأعظمهم تقوى لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وأكملهم خلقًا ، وأحسنهم أدبًا ، وأطيبهم معاملة ، وكل ما في كتاب الله عز وجل من عبادةٍ وخُلقٍ وأدبٍ وغير ذلك أتى به وتمَّمه وكمَّله صلوات الله وسلامه عليه .
وهـٰذا القـرآن هو زاد المؤمنين ، وروح قلوبهم ، وغذاء نفوسهم ؛ بل إنّ حياة الإنسان الحقيقيّة لا تكون إلاّ بالقـرآن الكريم ، لا يحيا العبد حياةً حقيقة إلا بهـٰذا الكتاب العظيم ، الكتاب المبارك ، ولهـٰذا سمَّى الله جلَّ وعلا كتابه روحًا في غير ما آية قال سبحانه: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى:52] ، وقال جلَّ وعلا في أوائل سورة النحل - سورة النِعم كما يسميها بذلك أهل العلم؛ لكثرة ما عدَّد الله فيها من نعمه - بدأ الله سورة النِّعم بقوله : ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ﴾ ، سمَّى ربُّنا جلَّ وعلا وحيه الحكيم وذكره العظيم والقرآن الكريم روحًا ؛ لأنَّ حياة القلوب الحقيقية إنَّما تكون بهـٰذا القـرآن ؛ بل سُمّيَ جبريل عليه السَّلام الذي ينزل بالوحي الروح ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ [الشعراء:193] ، وقال: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ ﴾ أي جبريل ﴿ فِيهَا ﴾[القدر:4] ، سمَّاه روحًا لأنَّه نزل بالقرآن الذي به حياة القلوب .
ويجب على كلِّ واحد منا أن يعلم أن حياته الحقيقة في هـٰذه الدنيا وفي الآخرة بحسب حظه ونصيبه من هـٰذا الكتاب المبارك علمًا وعملًا وتطبيقًا ؛ ولهـٰذا يقول الله جلَّ وعلا في سورة الحديد ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الحديد:16-17] .
تأمَّل أخي -رعاك الله- قول الله عزَّ وجلَّ : ﴿ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ ذكر هـٰذا سبحانه عقب قوله : ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ أتبع هـٰذا بإخباره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه يحيي الأرض بعد موتها قال : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فيها آيات عظيمة ، آيات جليلة ؛ أي كما أن الأرض الميِّتة تحيا بالماء إذا أنزل الله عليها الماء { اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [الحج:5] ، فكذلك القلوب لا يمكن أن تحيا إلَّا بالقرآن ، لا يمكن أن تدبَّ فيها الحياة وأن تذوق طعم الحياة وأن تتلذّذ بسعادة الدّنيا والآخرة إلا بهـٰذا القرآن ، وبدون القرآن والعمل به يعيش الإنسان في هـٰذه الحياة عيشةً بهيمية ليست عيشة حقيقية ، ولهـٰذا يقول الله: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه:123] نفْيُ الضلال فيه إثبات الهداية، ونفيُ الشقاء فيه إثبات السعادة ، فمن أراد لنفسه هدايةً وسعادةً فعليه بالقرآن ، ويقول جلَّ وعلا : ﴿ طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ [طه:1-2] أي : إنَّما أنزلناه عليك لتسعد ، وقد قيل في بعض كتب التفسير أنّ جماعةً من المشركين قالوا في حق نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه : إن الله أنزل عليه هذا القرآن ليشقى به هو وأصحابه ، فقال الله: ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ أي: إنَّما أنزلنا عليك القرآن لتسعد، ولهـٰذا السَّعادة الحقيقية وهناءة العيش وذوق واحة الإيمان وحلاوة الدين إنَّما يكون ذلك بالقرآن الكريم ؛ كتاب ربّنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
ولهـٰذا جاء في القرآن آيات عديدة فيها أمر الله سبحانه عباده بتدبُّر هـٰذا القـرآن حتى يذوقوا حلاوته ؛ لأنه لا يذوق حلاوة القرآن ولا ينتفع به إلاّ من تدبر آياته ، وعقل مضامينه ، وفهم معانيَه ، ولهـٰذا يقول شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله ((إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله، كيف يلتذُّ بقراءته؟ )) . ولهـٰذا جاء في القرآن آيات كثيرة فيها الأمر بتدبُّر القرآن الكريم : يقول الله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء:82] ، ويقول جل وعلا : ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد:24] ، ويقول جل وعلا : ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ ، وأخبر سبحانه وتعالى أن سبب ضلال من ضلَّ وهلاك من هلك وضياع من ضاع البُعد عن القرآن وعن تدبره ، وبيَّن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن هؤلاء وأمثالهم لو تدبَّروا القرآن لوجدوا فيه شفاء الصدور وصلاح القلوب وسعادة الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [المؤمنون:66-68] ، قال: ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ﴾ أي : لو أنهم تدبروا القول وعقلوا معناه وفهموا دلالته لَما حصـل لهم هـٰذا النكوص على الأعقاب ، ولَما حصـل لهم هـٰذا الضَّلال والضَّياع والفساد ، وهـٰذا يدلنا دلالةً بينة أن ضياع الإنسان وفساده وانـحرافه وزيغه بحسب بُعده عن هـٰذا الكتاب العظيم وهـٰذه الواحة الإيمانية المباركة التي فيها سعادة العبد في دنياه وأخراه .
يتبع