اتِّـــبَاعُ خَيْرِ الْهَدْي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد أيها الإخوة : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
موضوع هذه الحياضرة هو « اتِّبَاعُ الهُدَى » وهذا الموضوع موضوعٌ جليل القدر رفيع الشأن ينبغي لكل مسلم أن يهتم به غاية الاهتمام ويعتني به تمام العناية ، وفي الحقيقة إن اتباع الهدى هو العهد الذي عهِده الله تبارك وتعالى إلى آدم وذريته عندما أخرج سبحانه وتعالى آدم من الجنة وأهبطه إلى الأرض عهد إليه وإلى ذريته أن يتبعوا الهدى وبيَّن ذلك تبارك وتعالى في القرآن الكريم أتم بيان ، قال الله جل وعلا : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [طه:123-124] ، وقال في الآية الأخرى { قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة:38] هذا ما عهده الله تبارك وتعالى إلى آدم وذريته ؛ عهد إليهم اتباع الهدى ، ولهذا ينبغي أن يكون ارتباط هذا الموضوع وثيقاً بالقصة التي قدَّمت : قصة آدم وقصة إخراجه من الجنة ، والعداوة التي نشأت قديماً من إبليس تجاهه وتجاه ذريته .
القصة كما لا يخفى على الجميع : أن الله تبارك وتعالى أمر إبليس مع الملائكة أن يسجدوا لآدم فاستكبر إبليس وتعاظم ورأى نفسه أعلى من ذلك وأرفع قدراً من ذلك وامتنع من السجود ، ثم صار إلى الحقد والعداوة والضغينة ضد آدم عليه السلام ، ولما أكرم الله تبارك وتعالى آدم وأسكنه الجنة وقال له ولزوجه {كُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا } وحذَّرهما من قربان شجرة معيَّنة في الجنة ابتلاءً وامتحاناً جاء الشيطان بعداوته وضغينته وحقده إلى آدم فوسوس إليه وقال { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى } ، فأكل آدم من الشجرة {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } وقع آدم بذلك في معصية الله تبارك وتعالى وكانت هذه المعصية سبباً لإخراجه من الجنة وإهباطه إلى الأرض ، هذا الخطأ وهذه الطاعة التي وقعت منه عليه السلام لإبليس سبَّبت هذا الأمر وأدت إلى هذا الإهباط الذي حصل لآدم عليه السلام ولذريته . نتيجةً لهذا الخطأ أخرجه الله تبارك وتعالى من الجنة ، ولهذا الجنة هي المنزل الأول لبني آدم منزلنا الأول هو الجنة ، والخروج منها كان بسبب خطأٍ وقع فيه آدم ، وقد تاب الله تبارك وتعالى على آدم لأنه سأل الله عز جل استغفر ذنبه وتاب الله عليه كما سيأتي معنا في نص القرآن الكريم .
لما أخرج الله عز وجل آدم من الجنة وأهبطه إلى الأرض قال : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أمَر آدم وحواء وإبليس بالهبوط إلى الأرض وقال : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } يعني إبليس عدو لكم وممتلئ عداوةً لكم ، ثم أخذ يُنزل وحيه على آدم وعلى ذريته فقال : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } ، { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } كما في الآيتين .
أقول لابد في الحديث عن اتباع الهدى من استحضار هذه القصة العظيمة ، وهذه القصة كما تعلمون وردت في مواطن عديدة من القرآن الكريم ، وورودها في القرآن في مواطن عديدة ومرات متكررة يدلنا على أهمية هذا الأمر ووجوب الانتباه له ووجوب الحذر من هذا العدو اللدود الذي يكيد للإنسان كيدا والذي يتربص به من كل جهة والذي هو من أحرص ما يكون على غواية الإنسان وضلاله وانحرافه وبُعده عن طاعة الله تبارك وتعالى . تكرر مجيء هذه القصة في القرآن الكريم جاءت في سورة البقرة وفي سورة الأعراف وفي سورة طه وفي سورة الكهف وفي مواطن عديدة من كلام الله تبارك وتعالى ، سأشير إلى موضعين منها :
الموضع الأول في سورة البقرة ؛ يقول الله تبارك وتعالى : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} إلى وقت محدد ، لكم في الأرض مستقر ليس دائم وإنما إلى وقت محدد وإلى أجل معلوم { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} تاب الله على آدم وغفر له ذنبه بكلماتٍ قالها آدم فتاب الله عليه ، سأل الله عز وجل أن يغفر له خطيئته {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} .
الموطن الآخر في سورة طه ؛ يقول الله تبارك وتعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا } يعني إبليس {عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) } يعني لك في الجنة عندما أكرمه الله عز وجل بدخولها والبقاء فيها قال{ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} يعني لا ينالك جوع ولا ينالك عري ولا ينالك ظمأ ولا ينالك ضَحى وهو أن يضحى الإنسان للشمس فتؤثر عليه ، فهو في نعمة وفضل ومنة كبيرة من الله تبارك وتعالى لكن العدو اللدود إبليس لا يرضى بذلك فاتخذ أساليبه وجاء بحيَله وطرقه {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ } يعني وسوس الشيطان إلى آدم {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)} جاءه من هذا الطريق ، يعني إذا أكلت من هذه الشجرة تكون خالداً ويكون ملكك غير فانٍ ولا يلحقه البِلى ، فأثر فيه هذا الوسواس { فَأَكَلَا مِنْهَا } يعني هو وزوجه {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا } يعني نالهما العري {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } يأخذان من ورق الجنة ويستتران به {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) } وقع في هذه المعصية ووقع في هذه الخطيئة مع أن الله تبارك وتعالى حذره منها نهاه أن يقرب هذه الشجرة المعيِّنة ابتلاءً وامتحاناً فأكل منها آدم هو وزوجه عندما وسوس إليه الشيطان { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ } يعني اصطفاه{ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ } يعني الله عز وجل { اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} أنتم وإبليس اهبطوا إلى الأرض جميعاً { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } هو عدو له وأنتم أعداء له ، فالعداوة بين آدم وذريته وبين الشيطان قديمة وبدأت منذ تكبُّر إبليس وامتناعه عن السجود لآدم الذي فضَّله الله تبارك وتعالى وكرَّمه عليه { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ } الخطاب هنا في قوله { يَأْتِيَنَّكُمْ } أي آدم وذريته وأيضاً ذرية إبليس وهو الجن ، فالجميع مخاطبون بالشريعة ، الشريعة للثقلين كما قال الله عز وجل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] . { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) } أخرِج آدم من الجنة وأهبِط إلى الأرض ، والجنة هي المنزل الأول لآدم عليه السلام .
فحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنها منازلنا الأُلى وفيها المخيَّمُ
هكذا يقول ابن القيم رحمه الله في ميميته ، فهي المنزل الأول لآدم وذريته لكن بسبب هذا الكيد وبهذه الوسوسة التي كانت من إبليس أخرج آدم من الجنة ، فأصبح السبيل والطريق إلى العودة إلى الجنة المنزل الأول بأي شيء ؟ باتباع الهدى { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ } ، ولهذا أهبط الله عز وجل آدم والذرية إلى الأرض وجعلهم فيها ليبتليهم وليمتحنهم وليختبرهم ولينظر الأهل منهم باتباع هداه ومن هم بخلاف ذلك ممن يتبعون عدو الله إبليس ، ولهذا قال عز وجل : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى }.
هنا ينبغي أيها الإخوة أن نتنبه وأن نعي حقيقة وجودنا في هذه الحياة ، وأن نعي الغاية من خلْقنا ووجودنا على هذه الأرض ، وأن نعرف لماذا خَلقنا الله ، ولماذا وُجدنا في هذه الأرض ، وما هي الحكمة من ذلك ، وما الذي سيناله من أجر من أطاع الله ، وما الذي سيناله من عقاب من عصى الله ولم يتبع هدى الله تبارك وتعالى واتبع الشيطان ؛ هذه أسئلة لابد أن يطرحها كل عاقل على نفسه وأن تكون دائماً مسيطرة عليه وعلى تفكيره ، الله عز وجل قال في القرآن الكريم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3] وقال عنهم : {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] غائبون تماماً عن الغاية التي خُلقوا من أجلها وأوجدوا لتحقيقها ، بل بعضهم لا يعرف قصة أباه مع هذا العدو اللدود انفصلوا تماماً بسبب الفتن وبسبب كيد الشيطان انفصلوا عن أبيهم آدم تمام الانفصال وانفصلوا عن تلك العداوة التي بين آدم وبين إبليس ، بل إن كثيراً منهم أصبحوا من جنود إبليس ، بل إن بعضهم صار يتفاخر في نفسه وفي ضلاله وزيغه وإعراضه بأنه بلغ في ذلك مبلغاً أكثر من مبلغ إبليس يقول أحد ذرية آدم منشداً " وكنت امرءً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي " ؛ يعني وصلتُ إلى درجة أن إبليس أصبح من جندي في إضلال الناس وإغواءهم وصدهم عن دين الله . هكذا يتلاعب الشيطان بالناس ويتنقل بهم في أودية الضلال وسُبل الباطل وطرق الغواية حتى يفصلهم عن الغاية التي خُلقوا لأجلها وأوجدوا لتحقيقها ، وتعهد على نفسه كما ذكر الله {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه سلم أنه قال : ((إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ )) يعني ما من طريق يسلكه ابن آدم إلا والشيطان قاعد فيه سواء كان الطريق طريق خير أو كان الطريق طريق شر ؛ فإن كان طريق خير جلس فيه الشيطان ليصد ابن آدم عن المضي فيه ، وإن كان الطريق طريق شر جلس فيه الشيطان ليشجع الإنسان على المضي فيه ، فهو جالس في أطرق بني آدم أطرق الخير وأطرق الشر ، ولهذا يجب على المسلم أن ينتبه لذلك ، يجب أن يعلم أنه وُجد في هذه الأرض وعلى هذه البسيطة لأمرٍ محدد وغايةٍ محددة وهدفٍ محدد يجب أن لا يغيب عن ذهنه وهو : اتباع هدى الله والحذر الكامل من اتباع الشيطان ، { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ } لأجل هذه الغاية خلق الله الخلق وأوجدهم وجعل بينهم التناسل إلى أن تقوم الساعة ، هذه الغاية التي خُلق الخلق لأجلها وأوجدوا لتحقيقها اتباع هدى الله عز وجل .