الْمَتْجَرُ الرَّابِح
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . أما بعد :
أيها الإخوة الكرام هذه ساعةٌ طيبة نلتقي فيها في هذا الملتقى الذي أسأل الله عزَّ وجل أن يثيب القائمين عليه على رغبتهم في هذه المشاركة وجهودهم في ترتيب هذا اللقاء ، وأن يجزيكم أنتم أيها الإخوة وأيتها الأخوات حضوركم وحرصكم ، وأسأل الله عزَّ وجل أن ينفعنا جميعاً بما نقول ونسمع ، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجةً لنا لا علينا ، وأن يصلح لنا شأننا كله ؛ إنه تبارك وتعالى سميعٌ قريبٌ مجيب .
وموضوع اللقاء ليلتنا هذه عنوانه : « المتجر الرابح » ؛ ذلكم أنَّ التجارة والاتجار وتحصيل الأرباح والتنافس في نيل المكاسب مطمع كل إنسان ورغبة كل إنسان ، ولكن التجارة الرابحة والمغنم الواضح الباقي نفعه في دنيا العبد وآخرته يغفل عن التنافس فيه والسعي في تحصيله كثير من الناس .
وقد ألَّف أحد أهل العلم المتقدمين وهو شيخٌ للإمام الذهبي والإمام ابن كثير وغيرهما من أهل العلم كتاباً بعنوان «المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح » وهو للإمام الدمياطي رحمه الله ؛ ومن هنا جاءت فكرة هذا العنوان للحديث عن العمل الصالح والوقوف على بعض الأصول والجوانب العظيمة المتعلقة بالعمل الصالح من نواحٍ متعددة بحسب ما يسمح به المقام في هذا اللقاء .
والحديث أولاً : عن مكانة العمل الصالح ومنزلته العلية :
في القرآن الكريم - أيها الإخوة الكرام - أكثر من ثمانين آية كنتُ عصر هذا اليوم أتأملها آيةً آية وقرأتُها آيةً آية ذُكر فيها العمل الصالح ، في ثلاث وسبعين آية منها ذُكر العمل الصالح مقروناً بالإيمان ، وهذا العدد الكبير لذكر العمل الصالح مقروناً بالإيمان مرتباً على ذلكم ذكر الثواب والأجر من فوزٍ بمغفرة الله ، ونيلٍ لرضاه ، وسعادةٍ في الدنيا والآخرة ، وهناءة عيشٍ ، ونيلٍ للغفران والرحمة ، إلى غير ذلكم من أنواع الثمار والآثار التي ينالها المؤمنون الذين يعملون الصالحات ؛ مما يزيد من إقبال العبد المؤمن وعنايته بالإيمان والعمل الصالح ، لأنه كلما وقف المسلم على الفوائد والثمار والآثار زاد حرصه وعظمت رغبته ، وإذا غفل عن ذلك ضعُف وغفَل وشُغل بتوافه الأمور وحقير الأشياء ، وإن استمر على ذلك إلى أن تنقضي حياته ندم حيث لا يفيد الندم .
وفي هذه الآيات التي قُرن فيها الإيمان بالعمل الصالح دلالة على التلازم بينهما ؛ وأن الإيمان اشتُرط فيه العمل الصالح، وكذلكم العمل الصالح اشترط فيه الإيمان ، كقوله تعالى : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } [الأنبياء:94] ، وقوله تعالى : {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل:97] ، وكقوله تعالى : {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [الإسراء:19] .
وكذلكم اشتُرط للإيمان العمل الصالح : {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه:75] ، وآيات كثيرة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}[البقرة:277] ، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}[التين:6] ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }[البقرة:82] .
فإذا كان عند الإنسان عمل صالح وليس في قلبه اعتقادٌ حق وإيمانٌ صحيح لا ينفعه عمله ، قال تعالى : {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5] ، وإذا كان عند الإنسان إيمان بالغيب ولكنه لا يعمل وليس عنده عمل فهذا أيضاً ليس من أهل الإسلام ، لأن أهل الإسلام والإيمان هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ؛ أمران متلازمان : إيمان وعمل ، إقرارٌ انطوَت عليه القلوب يُثمر أعمالاً تظهر على العبد ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ((أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ)) .
والعمل الصالح ثماره وآثاره على العبد في دنياه وأخراه كثيرة جداً ، وعدُّ هذه الثمار والآثار يحتاج إلى مجالس عديدة ، لكن ليعلم المرء أن هذه الدنيا بما فيها من مُتَع ، وما فيها من أنواع المصالح ، وما فيها كذلكم من نسل ، وما فيها من تجارات ، وما فيها من بيوتات وحقول وغير ذلك ؛ كلها لن يدخل مع الإنسان إذا غادر هذه الحياة وأدرِج في القبر من ذلكم شيء ، بل لن يدخل مع الإنسان في قبره إلا عمله - صالحاً كان أو سيئا - ، وقد جاء في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاَثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ)) ، ومعنى يبقى عمله : أي يدخل معه في قبره . أما ولد الإنسان لا يدخل معه في قبره ولو كان يُغلي والده ويُكِنُّ له عظيم المودة والمحبة ، مال الإنسان مهما كثُر وتنوَّع لن يدخل مع الإنسان في قبره ، ولهذا جاء في حديث آخر رواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((مَثَلُ ابْنِ آدَمَ وَمَالِهِ وَعَمَلِهِ مَثَلُ رَجُلٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَخِلَّاءَ , قَالَ لَهُ أَحَدُهُمْ: أَنَا مَعَكَ مَا دُمْتَ حَيًّا , فَإِذَا مُتُّ فَلَسْتَ مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْكَ , فَذَلِكَ مَالُهُ , وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا مَعَكَ , فَإِذَا بَلَغْتَ إِلَى قَبْرِكَ فَلَسْتَ مِنِّي وَلَسْتُ لَكَ , فَذَلِكَ وَلَدُهُ وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا مَعَكَ حَيًّا وَمَيِّتًا فَذَلِكَ عَمَلُهُ)) . ولهذا نقل ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين عن أحد الحكماء أنه سُئل : أي الأصحاب أبَرّ ؟ قال : "العمل الصالح " ؛ فالعمل الصالح صاحب بر بصاحبه ، وانظر هذا البر في أحلك الأمور وأشدها وأعظمها عندما يدرج الإنسان في قبره ؛ جاء في الحديث في مسند الإمام أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه في سياق طويل وفيه : ((وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ ؟ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ )) ، وجاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((إِذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟)) .
فهذا وغيره مما يدل على المكانة العظيمة للعمل الصالح وأنَّ من يوفقهم الله سبحانه وتعالى للأعمال الصالحات هم أهل التجارة الرابحة والغنيمة الواضحة ، ومن سواهم من كافر أو مفرِّط فإنه سيندم ندماً عظيماً ولن يفيده ندمه ، ولهذا ؛ فإن الكيِّس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ، وفي هذا المعنى يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلاَ عَمَلٌ» .
في هذا المقام - مقام الحديث عن العمل الصالح - يأتي سؤالٌ لابد من بيانه ألا وهو : ما هو العمل الصالح ؟ وبمَ يكون العمل صالحاً ؟
والعمل الصالح : هو العمل الذي يحبه الله ويحبه رسوله صلى الله عليه وسلم مما أمر الله سبحانه وتعالى به أمر إيجابٍ أو أمر استحباب ، وهذا ميدانٌ واسع وبابٌ رحب ، والأعمال الصالحات القولية والفعلية الظاهرة والباطنة كثيرة والميدان فيها ميدان تنافس ، وفي هذا الميدان يتسابق المتسابقون ويتنافس المتنافسون ممن يرجون رحمة الله سبحانه وتعالى والفوز بعظيم الثواب وجميل المآب .
ولا يكون العمل صالحاً إلا بإخلاصٍ للمعبود جلَّ في علاه ومتابعةٍ للرسول صلى الله عليه وسلم ، والإخلاص أساس العمل الصالح الذي عليه يبنى فإن الأعمال لو تنوعت وكثرت وتعددت ولم تقم على الإخلاص لله لا ينتفع بها العامل ، وكذلكم لو أنه أخلص ولم يتَّبع في أعماله رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينتفع بأعماله ، فلا يكون الانتفاع بالأعمال إلا إذا أخلِصت لله واتُّبع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [الملك:2] ولا يكون العمل بهذا الوصف إلا إذا قام على الإخلاص والمتابعة . قال الفضيل ابن عياض رحمه الله تعالى في معنى الآية { أَحْسَنُ عَمَلًا } : " أخلصه وأصوبه " ، قيل يا أبا علي وما أخلصه وأصوبه ؟ قال : " إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل حتى يكون خالصاً صوابا ، والخالص ما كان لله ، والصواب ما كان على السنة " .
والأعمال الصالحة التي يحبها الله جل وعلا وأمر بها كثيرة ، لكن يأتي في الدرجة الأولى وفي صدر الأولويات فرائض الإسلام وواجبات الدين ، وهذا جانبٌ لابد من التنبه له في باب العمل الصالح والعناية به ، جاء في الحديث القدسي أن الله سبحانه وتعالى يقول : (( مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ )) ؛ ففرائض الإسلام واجبات الدين تأتي في المقدمة ، فإذا قيل : أي الأعمال أفضل وأيها أحب ؟ يقال الفرائض .
ولا يقدَّم نفلٌ على فرض ؛ تجد في بعض الناس لديه عناية جيدة ببعض النوافل من بِرٍّ أو صلةٍ أو صدقةٍ أو حُسن معاملة أو غير ذلكم من الأعمال لكنه تجده مضيِّع لفرائض عظيمة !! بل تجده مضيِّع لأعظم فريضة بعد التوحيد ألا وهي الصلاة ، والصلاة عماد الدين كما قال ذلكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل قال : ((مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ )) .
ففي باب العمل الصالح تُقدَّم الفرائض ، ومن شغَله فرضٌ عن نفل فهو معذور ، أما من شغَله نفلٌ عن فرضٍ فهو مغرور ، كيف يُشتَغل بالنوافل عن الفرائض !! أرأيتم لو أنَّ شخصاً سهر ليله قراءةً للقرآن -هذا نفل يثاب عليه - لكن لو كان هذا يترتب عليه إضاعة لصلاة الفجر فهو آثم في ذلك السهر لأنه على حساب الفرض وإضاعة الفرض ، فكيف بمن يسهر على معاصٍ وآثام وأمور تسخط الله تبارك وتعالى ثم يُتبِع ذلك بنوم وإضاعة لصلاة الفجر !! أين مقام الأعمال الصالحات والعناية بها ؟! . قال ((مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ )) .
فإذاً الأعمال الصالحة تتفاضل ويأتي في صدر الأفضلية في الأعمال الصالحة فرائض الإسلام ، ثم بعد الفرائض إن قيل أي العمل أفضل ؟ يقال - كما ذكر ذلكم شيخ الإسلام وغيره من أهل العلم - ليس في ذلكم جوابٌ مفصَّل إلا بحسب حال الإنسان ومقامه والوقت الذي هو فيه ، لكن يمكن يقال قولاً جامعاً في هذا الباب : أنَّ الأفضل في كل وقت الأفق للسنة في ذلك الوقت ؛ وهذه قاعدة ثمينة في باب التفاضل بين الأعمال وأيها أفضل .
وإذا كانت الأعمال في نفسها متفاضلة فإنَّ أهل الإيمان في الأعمال متفاضلون ، ليسو على درجة واحدة بل بينهم تفاوتٌ عظيم وتباينٌ كبير ، ولا أطيل في هذا لكني أشير فيه إلى قول الله سبحانه : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا }[فاطر:32-33] ؛ فانظر هذا التفاضل بينهم وأنهم على أقسام ثلاثة وأيضاً تحت كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة يتفاوتون ؛ { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } : ظلم نفسه بالذنوب والمعاصي فيما دون الكفر والشرك بالله ، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ } : أي مقتصر على فعل الواجبات وترك المحرمات ، { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } : أي فعَل الواجب وترَك المحرم ونافس في الرغائب والسنن والمستحبات .
وقُدِّم في هذه الآيات الظالم لنفسه لئلا يقنط ، وأخِّر السابق بالخيرات لئلا يصاب بالعجب ، وسبْقه بالخيرات فضل تفضَّل الله به عليه {بِإِذْنِ اللَّهِ} ، والله جل وعلا هو المتفضل والمان { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } [النور:21] ؛ ولهذا مما ينبغي أن يفقه في هذا المقام : أنَّ الأعمال الصالحات والطاعات الزاكيات لا يمكن أن تقوم بشيء منها إلا إذا أعانك الله ويسَّر لك ذلك وشرح صدرك للقيام به ، قد قال نبينا عليه الصلاة والسلام لمعاذ ابن جبل : ((يَا مُعَاذُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أُحِبُّكَ ، قَالَ : أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ))
يتبع