الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَأَثَرُهَا عَلَى الْعَبْدِ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده رسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين . أما بعد :
بادئ ذي بدء أسال الله عز وجل أن يلهمنا جميعاً رشد أنفسنا ، وأن يمنَّ علينا جميعاً بالعلم النافع وأن ينفعنا بما علمنا وأن يرزقنا الفقه في دينه ، وأن يوفقنا للعمل الصالح والقول السديد الذي يرضى به عنا تبارك وتعالى .
ثم أيها الإخوة الأكارم : موضوع هذا اللقاء موضوعٌ واسع وله جوانب عديدة ولا أحسب أنني في هذا اللقاء أستطيع أن آتي على بعض مهمات هذا الموضوع ، لكنني سأقف مع بعض الجوانب المتعلقة به من باب التذكير والمدارسة ، وقد قال الله تعالى : {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } .
وموضوعنا عن « أثر الإيمان بأسماء الله تبارك وتعالى الحسنى في حياة العبد » ؛ وهذا موضوع عظيم ، بل هو أهم الموضوعات وأشرفها وأجلّها على الإطلاق . وسيكون حديثي عن هذا الموضوع في ثلاثة محاور :
الأول : في بيان شرف هذا العلم وفضله وعظيم مكانته وأنه أشرف العلوم وأجلُّها .
والمحور الثاني : في بيان بعض القواعد المهمة والأصول العظيمة التي ينبغي أن يكون عليها المسلم في فقهه لهذا الباب وعنايته بهذا العلم العظيم الشريف .
والمحور الثالث : بذكر شيء من آثار الفقه الصحيح لأسماء الله الحسنى على العبد في عبوديته وسلوكه وآدابه وأخلاقه ومعاملاته وعموم حياته .
أما شرف هذا العلم فأمرٌ لاشك في تقرره وثبوته وأنه أشرف العلوم وأجلها وأرفعها على الإطلاق ، لأنَّ الأمر كما يُقال : شرف العلم من شرف معلومه ، وليس هناك أشرف ولا أعظم ولا أنبل من العلم بالله ومعرفته سبحانه وتعالى ، بل إن العلم به جل وعلا مقصود للخلق كما يدل على ذلك قول الله تعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12] خلق لتعلموا ، فالعلم بالله وبأسمائه وصفاته أمرٌ مقصود بالخلق والإيجاد ، والله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعرفوه وليعبدوه ، خلقهم للعلم وللعمل ، خلقهم للعلم كما تدل على ذلك هذه الآية وهي آخر آية في سورة الطلاق ، وخلقهم للعمل كما قال جل وعلا في أواخر سورة الذاريات : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} ، ولهذا قال العلماء : التوحيد نوعان : علمي وعملي .
1. التوحيد العلمي : يتعلق بجانب المعرفة والإثبات. في قوله سبحانه : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } إلى تمام السورة .
2. والعملي : يتعلق بجانب الإرادة والطلب . في قوله سبحانه : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلى تمامها .
فالله جل وعلا خلق الخلق ليعرفوه وليعبدوه . ومعرفة الله سبحانه وتعالى تكون بمعرفة أسمائه جل وعلا وصفاته في ضوء كتابه سبحانه وسنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه .
ويدل على شرف هذا العلم وفضله أنه ركن من أركان الإيمان بالله ، لأن الإيمان بالله سبحانه وتعالى يقوم على أركان منها إثبات أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا الثابتة في كتابه وسنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه. والإيمان بالله هو أعظم أركان الإيمان وأجلُّها ؛ بل هو أصل أصول الإيمان وأساسها ، وبقية أصول الإيمان تبع لهذا الأصل ، قال تعالى : {كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] فبقية أصول الإيمان تبع لأصل أصول الإيمان و هو الإيمان بالله ، والإيمان بالله يكون بالإيمان بوحدانيته في ربوبيته ، ووحدانيته في أسمائه وصفاته ، ووحدانيته في ألوهيته باعتقاد أنه المعبود بحق ولا معبود بحق سواه وصرف العبادة بجميع أنواعها لله وحده مخلصاً له الدين .
ومما يدل على شرف هذا العلم قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما : ((إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ )) ، فقد أفاد هذا الحديث أن العلم بأسماء الله الحسنى وبما دلت عليه من الصفات العظيمة يترتب عليه ويُثمر فيمن وُفق إليه دخول الجنة ، قد قال عليه الصلاة والسلام : ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ)) وأعظم أصول الإيمان العلم بالله جل وعلا وبما أمر جل وعلا عباده بمعرفته مما يتعلق بعظمته وجلاله وكماله وكبريائه وأنه سبحانه وتعالى المعبود بحق ولا معبود بحقٍّ سواه .
ومما يدل على شرف هذا العلم وفضله : أنه أساسٌ لكل خير وكل فضيلة ، فهو أساسٌ لسعادة الإنسان وزكاء قلبه وصلاح نفسه وطيب حاله ، بل إن تزكية النفس لا تكون إلا بالعلم بالله وعظمته سبحانه ، كما جاء في أبي داود وغيره عندما ذكر عليه الصلاة والسلام خصالاً ثلاثة منها تزكية العبد نفسه ، فسُئل عليه الصلاة والسلام كيف يزكي نفسه ؟ قال : ((أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُمَا كَانَ)) وهو حديث حسَّنه بعض أهل العلم . فأساس تزكية النفس العلم بالله وأنه معك أينما كنت ، أي بعلمه واطلاعه وأنه جل وعلا لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .
فقول الرب جل وعلا : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس:9-10] أساس هذه التزكية العلم بالله سبحانه وبعظمته وكماله وسعة علمه وكمال قدرته ونفوذ مشيئته ؛ فكلما كان العبد على حظٍّ أوفر من العلم بالله كان ذلك أكمل له في زكاة نفسه ، ولهذا قال الله جل وعلا {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر:28] ، ولهذا قال بعض أهل العلم : " من كان بالله أعرف كان منه أخوف " ، قال بن القيم رحمه الله : " من كان بالله أعرف كان منه أخوف ، ولعبادته أطلب ، وعن معصيته أبعد " .
فإذاً مما يدل على شرف هذا العلم ومكانته العلية ومنزلته الرفيعة أنه أساسٌ لكل خير ، والعبد كلما ازداد معرفةً بالله وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا زاد في الخير والفضل والزكاء والصلاح والفلاح بحسب حظه ونصيبه من المعرفة بالله سبحانه وتعالى .
ومما يدل على فضل هذا العلم ومكانته أن في القرآن آيات تقرب من الثلاثين آية فيها الأمر بتعلم هذا العلم ولاسيما في خواتيم عدد من الآيات ، مثل ما مرّ معنا في خواتيم سورة الطلاق {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال جل و علا {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ } [محمد:19] ، وفي القرآن من هذا القبيل آيات تقرب من الثلاثين آية يأمر جل وعلا فيها بالعلم بأسمائه جل وعلا وصفاته .
ومما يدل على فضل هذا العلم ومكانته العلية : أنه قاعدة الدين التي عليها يُبنى وأساسه ؛ فلا قبول لعمل ولا انتفاع بطاعة إلا إذا كانت قائمة على هذا الأصل ، قال تعالى : {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5] قال تعالى : {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً } [الإسراء:19] ، وقال تعالى : {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97] فالإيمان بالله وبما أمر جل وعلا عباده بالإيمان به أساسٌ لقبول الأعمال ، وهو الذي يصحح الأعمال ولا تكون مقبولةً إلا به. إلى غير ذلك من الوجوه التي يُعلم من خلالها مكانة هذا العلم الشريف ومنزلته العلية .
المحور الثاني في هذا اللقاء : في ذكر بعض القواعد والأصول التي لابد منها في فقه هذا الباب حتى يسلم طالب العلم من الانحراف والزلل والخطأ في هذا الباب .
وينبغي أن يُعلم هنا أن الخطأ في أسماء الله جل وعلا وصفاته ليس كالخطأ في أي اسم آخر ، فالأمر فيه خطورة بالغة ، الخطأ في أسماء الله وصفاته في غاية الخطورة ، سواءً كان الخطأ بأن يُثبت فيها أو يُدخل فيها ما ليس منها ، أو ينفي منها ما هو ثابت ؛ الأخطاء التي تقع في هذا الباب راجعة إلى هذين الخطأين : إما بنفي الثابت ، أو إثبات المنفي . إما بأن يُثبت فيها - أي الأسماء والصفات - ما لا دليل عليه ولا مستند من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم ، أو أن يُخرج منها ما هو ثابت في كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه . الخطأ في هذا الباب يرجع إلى هذين الجانبين .
ولنتأمل خطورة هذا الأمر من خلال سياقين في كتاب الله ، كل سياق منها متعلق بأحد هذين الجانبين :
الأول : قول الله سبحانه { وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ } [فصلت:22-24] هؤلاء خطؤهم في باب الأسماء والصفات من جهة نفي الثابت ، فالثابت أن الله سبحانه وتعالى عليم ، أحاط علماً بكل شيء ، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، وسع كل شيء علما ، يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ، يعلم السر وأخفى ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وأحاط بكل شيء علما ، أحصى كل شيءٍ عددا . وهؤلاء وقعوا في خطأ عقَدِيٍّ خطير ما هو ؟ قال : {وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} ، وتأمل فإن هؤلاء لم ينفوا العلم عن الله من أصله ، لم يقولوا : إنه ليس ذا علم ، وإنما نفوا علمه جل وعلا بكثير مما يعملون فأرْداهم هذا الاعتقاد {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} ، ومن هنا تعلم أن نفي شيء من أسماء الله وصفاته بأيِّ مبرِّر كان وأيِّ مسوغ أُفتُرض فإنه هلاك للإنسان ومُردٍ له {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} .
يتبع