أثر الأذكار في علاج الهم والغم
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله ؛ صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلَّم تسليماً كثيرا ، أمَّا بعد :
أولاً أحيي الإخوة الكرام بتحية الإسلام ؛ فسلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى أن يكتب لنا جميعاً في هذا اللقاء النفع والخير والفائدة ، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم مطابقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يجعل ما نقوله حجة لنا لا علينا وأن يجعلنا من عباده المتقين {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ } [الزمر:18] .
أيها الإخوة : موضوع هذا اللقاء عن " أثر الأذكار الشرعية في طرد الهم والغم " وكلكم يعلم أنَّ الإنسان بين الحين والآخر قد يُلمُّ به بعض الملمَّات ، وقد تصيبه بعض المصائب ، وقد يُبتلى ببعض الآلام الَّتي تكدِّره وتُؤلم قلبَه وتعصر فؤاده وربَّما جَلَبَتْ له الكثيرَ من الحزن أو الهمِّ أو الغمِّ ، وهذا الحزن أو الألم الَّذي يُصيب القلب إمَّا أن يكون متعلِّقًا بأمورٍ ماضية ، أو يكون متعلِّقًا بأمورٍ مستقبَلَة ، أو يكون متعلِّقًا بحاضر الإنسان ؛ قد يتذكَّر الإنسان أمورًا مَضَتْ وأشياء قد فاتت عليه فيتألَّم ويحزن لذلك ، وقد يكون الألم الَّذي أصاب قلبَه يتعلَّق بأمور مستقبلة ؛ يتخوَّف من أشياء ، يتوقع حصول أشياء ، يدخل قلبه شيء من المخاوف ، وقد يكون الألم يتعلَّق بواقع الإنسان كمصيبةٌ حلَّتْ به أو نزلت به ؛ ولهذا يقول العلماء: إنْ كان الألم الَّذي يصيب القلب متعلِّقًا بشيء ماضٍ فهو حزن ، وإن كان يتعلَّق بشيء مستقبل فهو هَمٌّ ، وإن كان يتعلَّق بواقع الإنسان وحاضره فهو غمٌّ.
وهذه الثَّلاث - الحزن والهمُّ والغمُّ - كلُّها آلامٌ تصل إلى القلب ، ثمَّ إنَّها إذا وصلت إلى قلب الإنسان تُتْعِبُه وتؤرِّقه وتكدِّر خاطره ، ولا يكون وضعُه مع وجودها سويًّا طبيعيًّا ، حتَّى إنَّك لتقرأ ذلك في بعض الوجوه ؛ تقابل أحدَ زملائك وبدون أن يتحدَّث إليك تقول له : "ما بالي أراك مهمومًا أو محزونًا أو مغمومًا " بدون أن يتحدَّث لكنها تبدو آلامها على تقاسيم وجهه !! ولاسيما إذا اشتدَّت عليه . فهي أمور تصل إلى الإنسان لأسباب ولأحوال متنوِّعة تمرُّ عليه في هذه الحياة .
وعند النَّظر في طريقة علاجها والسَّعي في إبعادها وإزالتها من القلب ؛ نجد أنَّ النَّاس يتفاوتون في هذا الباب تفاوتًا عظيمًا وينحون في العلاج مناحٍ شتَّى ، ولكن لا علاج ولا دواء ولا شفاء ولا سلامة من ذلك كلِّه إلَّا بالعودة الصَّادقة إلى الله جلَّا وعلا ؛ فبالعودة إلى الله وذِكْره وتعظيمه وعمارة القلب بتوحيده والإيمان به ، واللُّجوء الصَّادق إلى الله والافتقار إليه والذُّلِّ بين يديه والانكسار له - سبحانه – كل هذه تذهب ولا يبقى منها شيءٌ.
والذِّكر هو طُمأنينةُ القلوب وأنسُ النُّفوس وذهابُ الهموم والغموم ، كما قال الله جلَّا وعلا: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28] ، فطُمأنينة القلب وزوال همِّه وغمِّه وحزنِه؛ إنَّما يكون بذكر الله وتعظيمه وعمارة القلب بالإيمان به عز وجل .
وعليه - أيها الإخوة - فإنَّ الذِّكر هو الشِّفاء وهو الدَّواء ، وقد جاء عن النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام أذكارٌ عديدة أرشد - صلوات الله وسلامه عليه - مَنْ أصابه كربٌ أو حلَّ به همٌّ أو نزل به غمٌّ أن يفزع إليها وأن يُحافظ عليها وأن يأتي بها ليزول عنه ما يجد وليذهب عنه ألمه وهمُّه وغمُّه .
وقد ورد في هذا الباب أحاديث عديدة خرَّجها أهل العلم في كتب الحديث ، وسأقف بكم - أيها الإخوة الكرام- على طائفةً عطرةً ونخبةً مباركةً من هذه الدَّعوات والأذكار العظيمة الثَّابتة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والَّتي يُشرع للمسلم أن يقولها عندما يصيبه الهمُّ أو الكربُ أو الحزنُ أو نحو ذلك.
روى البخاريُّ ومسلم في صحيحيهما عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول في الكرب : «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا الهُا رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ» .
وروى أبو داود في سننه عن أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الكَرْبِ، تقولين: اللهُ، اللهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» .
وروى أبو داود في سننه عن أبي بكرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «دَعَوَاتُ المَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» .
وروى التِّرمذي في سننه عن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ : لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ ، فَإِنَّهُ ما دَعَا بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللهُ لَه» .
هذه الأحاديثُ وهي أربعةُ عظيمةٌ وصحيحةٌ وثابتةٌ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيها علاجٌ للكرب الَّذي يُصيب الإنسان ، ودواءٌ للغمِّ والحزن والهمِّ ، ووالله الَّذي لا إله إلَّا هو إنْ أتى بها الإنسانُ متأمِّلًا معناها محقِّقًا لمقصودها ومقتضاها لن يبقَ في قلبه من الهمِّ مقدار ذرَّة ؛ فإنَّها دواءٌ نافع وعلاجٌ مبارك وشفاءٌ لما في الصُّدور ، ولكن يحتاج المسلم إذا قال هذه الأذكار المباركة أن يتأمَّل في معناها ، وأن يعرف مدلولها ، وأن يحقِّق مقصودها ؛ يقول العلماء: «إنَّ الإتيان بالأذكار المأثورة والدَّعوات المشروعة بدون علمٍ بالمعنى وتفقُّهٍ في الدَّلالة ضعيفُ التَّأثير قليل الفائدة» ولهذا نحتاج إلى هذا الشيء في ذكرنا لله عز وجل ؛ كثيرٌ منَّا يأتي بالأذكار الشَّرعية ويواظب عليها لكنَّه لا يقف متأمِّلًا في دلالتها !
وعليه – أيها الإخوة – هذه الأذكار التي تقال لعلاج الكرب وعلاج الهم والغم والحزن لابد أن نتأمل فيما تدل عليه ، ولو وقفتم – أيها الإخوة الكرام - متأمِّلين في هذه الأذكار الأربعة الَّتي أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّها علاج للكرب لوجدتم أنَّها تَشترك في شيء واحد ، هذا الشيء الذي تشترك فيه هذه الأذكار لابد منه لعلاج الكرب والهم والغم ، ولابد منه لسلامة الإنسان وربحه وغنيمته في الدنيا والآخرة وتأمل !! في الأذكار الأربعة اجتمع تحقيق التَّوحيد الَّذي خُلق العبد لأجله ووجد لتحقيقه ؛ التَّوحيد الَّذي هو إخلاص العبادة لله وإخلاص الطَّاعة له سبحانه وتعالى هو المفزع للإنسان في كرباته وفي جميع همومه وغمومه ، ولا زوال للهموم والغموم إلَّا إذا حقَّق العبد التَّوحيد وفزِع إلى الله وأخلص دينه لله تبارك وتعالى .
وتأمَّلوا معي الأذكار الأربعة :
الأوَّل : حديث ابن عبَّاس أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول في الكرب : «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ» ؛ لما يقول المكروب هذا الذِّكر المبارك وهو يتأمَّل معناه ويقف عند دلالاته «لا إله إلَّا الله» يتذكَّر توحيد الله وأنَّه إنَّما خُلق للتَّوحيد وأوجِد للاإله إلا الله ليشغل قلبَه ووقتَه وحياتَه بـ«لا إله إلَّا الله» ، هو خُلق لأجل ذلك ، ولهذا ينبغي أن تكون «لا إله إلَّا الله» هي أكبر همِّ الإنسان ، وأهمُّ شغل الإنسان ، وأعظمُ اتِّجاه الإنسان وجلُّ اهتمامه ، فهو لم يُخلَق إلَّا لأجلها ، ولم يوجد إلَّا لتحقيقها ؛ فهي مقصودُ الخليقة وأساسُ إيجاد النَّاس ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56] ، ما خلقهم الله إلَّا لأجل « لا إله إلا الله » .
«لا إله إلا الله» تعني إخلاص العبادة لله وإخلاص الدِّين له ، «لا إله إلَّا الله» : أي لا معبود بحقٍّ إلَّا الله ، فيها نفيٌ وإثباتٌ ؛ نفيٌ للعبوديَّة عن كلِّ مَنْ سوى اللهِ ، وإثباتٌ للعبوديَّة بجميع معانيها لله وحده ؛ فالَّذي يقول: «لا إله إلَّا الله» لا يسأل إلَّا الله ، ولا يستغيث إلَّا بالله ، ولا يلتجأ إلَّا إلى الله ، ولا يعتمد إلَّا على الله ، ولا يتوكَّل إلَّا على الله ، ولا يطلب شفاءَ هُمُومِه وغمومِه وأحزانِه إلَّا مِنَ الله .
فيقول: «لا إله إلَّا الله العظيم »: يتذكَّر عظمة الله وأنَّ الله عز وجل هو الكبير المتعال وهو العليُّ العظيم ، فيتذكَّر عظمة الله وكمال قوَّته وكمال اقتداره وإحاطته بخلقه سبحانه وتعالى وأنَّه لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السَّماء، ويتذكَّر حُلم الله عز وجل .
ثمَّ يقول : «لا إله إلَّا الله ربُّ العرش العظيم » فيتذكَّر خلقَ الله للعرش ؛ ذلك المخلوق الَّذي هو أكبر المخلوقات وأوسعها ، ولهذا وُصف في هذا الذِّكر بأنَّه عظيم ووُصف بأنَّه كريم ، فعرش الرحمن عظيم وعرش الرحمن كريم و«الكَرَمُ» هو السَّعة ، والعرش هو أوسع المخلوقات وأكبرها ؛ فيتذكَّر عظمة الله بتذكُّر عظمة مخلوقاته الَّتي أوجدها الرَّبُّ عز وجل .
ثمَّ يتذكَّر خلق الله للسَّموات وخلق الله للأرض، يتذكَّر هذه المعاني الجليلة وهو يردِّد هذه الكلمات ؛ فينشغل قلبُه بها ويَنْصَبِغُ فؤادُه بها وتكون هي شغله , فأيُّ باقية تبقى للهمِّ أو الغمِّ أو الحزن مادام القلب منشغلًا بذلك ؟!
ولهذا نستفيد من هذا الدُّعاء وغيرِه : أنَّ علاج الهمِّ والغمِّ توحيدُ الله , ذكرُ الله ، تعظيمُ الله , تنزيهُ الله , الالتجاء إلى الله ؛ هذا هو العلاج .
وفي حديث أسماء بنت عميس قال: «أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الكَرْبِ ؟ » ؛ وهذا منه - عليه الصَّلاة والسَّلام - تشويقٌ لها إلى الفائدة وترغيبٌ لها ، لما اشتاق قلبُها رضي الله عنها إلى ذلك علَّمها ، قال: تقولين «اللهُ، اللهُ ربِّي لا أشرك به شيئًا» هذا علاجٌ للهمِّ ؛ «اللهُ، اللهُ رَبِّي، لا أُشرك به شيئًا».
«الله» الأولى: مبتدأٌ ، والثَّانية : تأكيد لفظيٌّ له – للمبتدأ - لعظم الأمر وكِبَرِ المقام وهو توحيد الله وإخلاص الدِّين له ، «الله، الله» تكرِّر هذه الكلمة مرَّتين حتَّى تملأ القلب وهو يتأمَّل فيها .
«الله، الله ربِّي» ؛ ومعنى «الله» : أي ذو الألوهيَّة ، ذو العبوديَّة على خلقه أجمعين الَّذي تُصرف له جميع أنواع الطَّاعات.
من هو الله ؟ من هو المعبود بحقٍّ ؟ قال: «اللهُ ربِّي» ؛ ومعنى قوله «الله ربِّي» : أي معبودي بحق الذي لا معبود لي سواه هو ربي الَّذي خلقني ، ومعنى «ربِّي» : «الرَّبُّ» هو الخالق الرَّازق المنعِم المدبِّر المتصرِّف في شؤون خلقه كلِّها، فمعبودي الذي أصرف له العبادة بجميع أنواعها ربي ، وهذا هو معنى قول الله عز وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة:21] ، هنا يقول « الله ربِّي» يعني عبادتي وتوجُّهي وقصدي والْتِجَائي واعتمادي كلُّه على ربِّي الذي خلقني ، والرب هو الخالق الرازق المنعم المتصرف المدبر لشئون الخلائق الَّذي بيده أزمَّة الأمور تبارك وتعالى .
«لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» ؛ وهذا فيه البراءة من الشِّرك ، فعلاج الهمِّ: إخلاصُ التَّوحيد والبراءةُ من الشِّرك؛ بأن يعتمِدَ العبدُ على ربِّه سبحانه وتعالى في كلِّ ملمَّاته ، وفي جميع أموره ومهمَّاته .
وقوله: «لَا أُشْرِكُ» هذا فيه البراءة من الشِّرك ، و«الشِّرك» : هو تسوية غير الله به في أيِّ شيء من خصائص الرَّبِّ عز وجل ، سواء في الرُّبوبيَّة أو الألوهيَّة أو الأسماء والصِّفات.
«لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» : و«شيئًا» هنا نكرةٌ في سياق النَّفي فَتَعُمُّ ، أي: لا أشرك به شيئًا أيَّ شيء كان ، لا صغير ولا كبير ، لا دقيق ولا جليل ، وهذا فيه البراءة من الشِّرك كلِّه ؛ فإذا قال المسلمُ هذه الكلمة العظيمة ذهب عنه الكربُ لأنَّ قلبه انشغل بأعظم الأمور وأوجب الواجبات وأجلِّ المقاصد وأعظم الغايات وهو توحيد الله ؛ فما بقي للغمِّ فيه مكانٌ ؛ لأنَّه منشغلٌ بالتَّوحيد وبالإيمان وبالإخلاص للرَّبِّ العظيم سبحانه وتعالى .
وفي الحديث الثَّالث حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال عليه الصَّلاة والسَّلام : «دَعَوَاتُ المَكْرُوبِ » يعني دعوات من أصابه كرب « أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» ؛ ما أعظمها من دعوات !!
«اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو» ؛ هذا فيه الإخلاص وفيه التَّوحيد .
«رَحْمَتَكَ أَرْجُو» أصل الجملة : «أرجو رحمتك» فقدَّم المعمولُ على العامل ليفيد الحصر ، قولك «اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو» : أي رحمتك وحدك أنت , لا أرجو رحمةَ أحدٍ سواك وإنما أرجو رحمتك أنت وحدك ، وهذه صفة المؤمنين قال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾ [الإسراء:57] . فيبدأ دعوته لطرد الكرب الَّذي أصابه بهذا التَّوحيد : «اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو» يعني أرجو الرَّحمة منك وأطلبها منك ولا أطلبها من أحدٍ سواك.
«فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ» ؛ وهذا فيه افتقار العبد الكامل إلى الله عز وجل في كلِّ لحظة من لحظاته وفي كلِّ سكون من سكناته ؛ فأنت فقيرٌ إلى الله حتَّى في طَرْفَةِ العَيْنِ ، مفتقرٌ إلى الله في كلِّ شؤونِك ، لا غنَى لك عن ربِّك، وأمَّا الله فهو غنيٌّ عنك من كلُّ وجه ، وأنتَ فقيرٌ إليه من كلِّ وجه ، ولهذا تقول: «لا تكلني إلى نفسي طرفة عين»؛ إنْ وَكلك اللهُ إلى نفسك - ولو للحظةٍ واحدةٍ - تَضيع وتضلُّ ، من وُكل إلى نفسه ضاع ، ومن وُكل إلى غير الله ضاع ، ولهذا من نعمة الله على عبده المؤمن أن لا يكِلَه إلَّا إليه ، من نعمة الله عليك أن لا يكِلَك إلَّا إليه ؛ لأنَّه إذا وَكَلك إليه سبحانه وكَلَك إلى قوَّة وعزَّة وقهر وسلطان ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر:36] ، ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق:3] ، ﴿ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [الزمر:38] ، فأنتَ إذا كنت متوكِّلًا على الله لم تخف من شيء وخافك كلُّ شيء ، وإذا لم تكن متوكِّلًا على الله أخافك الله من كلِّ شيء ، حتَّى ما تتوكَّل عليه من المخلوقات تُوكل إليها وتكون سببًا لضياعك وهلاكك ، كما جاء في الحديث أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام قال: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدْعَةً فَلَا وَدَعَ اللهُ لَهُ» ؛ لأنَّ الَّذي تعلَّق التَّميمة وتعلَّق الودعة علَّق قلبَه بها فيضيع ، بينما المسلم لا يعلِّق قلبه إلَّا بالله سبحانه وتعالى ولا يلتجئ إلَّا إلى الله ولا يعتمد إلَّا على الله.
«وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ» ؛ وهذا فيه افتقارك إلى الله في إصلاح شأنك كلِّه ، فشأنُك في دينك وشأنك في دنياك وشأنك في آخرتك لا يصلُح إلَّا إذا أصلحه الله لك ، ولهذا كان عليه الصَّلاة والسَّلام يقول في دعائه : «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، والموْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» .
«وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»: ثمَّ ذَكَرَ كلمة التَّوحيد «لا إله إلَّا الله» : أي لا معبود بحقٍّ سواك ، لا يُلتجأ إلَّا إليك ، ولا يُعتمد إلَّا عليك ، ولا يتوكَّل إلَّا عليك ، ولا تفوَّض الأمور إلَّا لك «لا إله إلَّا أنتَ» ؛ فهذا من الأمور الَّتي يُعالج بها الكرب.يتبـــــــــع