مُدَاوَاةُ الْقُلُوب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد :
أولاً السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأسال الله عز وجل أن يكتب لنا جميعاً في لقاءنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما يرضى ، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، وأن يهب لنا من لدنه رحمة ، وأن يصلح لنا نياتنا وذرياتنا ، وأن يهدينا إليه صراطاً مستقيما .
أيها الأخوات : الأصل في هذا الباب « باب مداواة النفس » هو قول الله تبارك وتعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ } [الحشر:18] ؛ { وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } فهذا أصلٌ في مداواة النفس ومحاسبتها بأن يكون العبد متفكراً ومتأملاً ومتدبراً ما قدَّمه لغده يوم يلقى الله جل وعلا ، كما في الآية الأخرى وهي قوله سبحانه وتعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] .
والناس مع النفس على قسمين :
1- قسمٌ حاسب نفسه وعاتبها ونهض بها إلى معالي الأمور وفضائل الآداب وكوامل الأخلاق .
2- وقسمٌ غمس نفسه في الرذائل وحقَّرها بفعل القبائح ودنَّسها بارتكاب المعاصي والآثام .
ولهذا قال الرب تبارك وتعالى في القرآن الكريم في ذكر هذين القسمين : {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا }[الشمس:9-10] ؛ {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } أي زكى نفسه وذلك بأن يكون طهَّرها ونقاها من الكفر والمعاصي والآثام وجاهد نفسه على البعد عن ذلك كله وأصلحها بالطاعات والأعمال الصالحات ، وهذا هو معنى الآية في تفاسير أهل العلم ؛ {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا }: أي طهَّرها ونقاها وأبعدها عن الكفر والفسوق والعصيان وحلاها بطاعة الرحمن تبارك وتعالى ولزوم أمره جل وعلا .
قال بن القيم رحمه الله في معنى الآية {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} : (( أي نقصها وأخفاها بترك عمل البر وركوب المعاصي )) انتهى كلامه رحمه الله .
الشاهد أن الناس في هذا الباب على قسمين : قسمٌ يجاهد نفسه على صلاحها واستقامتها ، وقسم آخر يطاوع نفسه الأمارة بالسوء على ما تدعوه إليه من أمورٍ تجره إلى سخط الله تبارك وتعالى وعقابه .
ثم إن الله عز وجل قد ركّب في الإنسان نفسين : نفساً أمارةً بالسوء ، ونفساً مطمئنة ؛ وهما متعاديتان ، النفس الأمارة بالسوء معادية للنفس المطمئنة ، والنفس المطمئنة معادية للنفس الأمارة بالسوء ، فكل ما خفَّ على هذه ثقل على هذه ؛ أي الأمور التي تطلبها النفس الأمارة تأباها النفس المطمئنة ، والأمور التي تطلبها النفس المطمئنة تأباها النفس الأمارة ، وكلما التذَّت إحداهما بشيء تألمت الأخرى به ؛ فمثلا : إذا التذت النفس الأمارة بفعل معصية تألمت النفس المطمئنة لفعلها ، ولهذا فإن النفس الأمارة بالسوء أشقُّ شيءٍ عليها فعل الطاعات والقيام بالأمور التي تُرضي الله سبحانه وتعالى ، والنفس المطمئنة أشقُّ شيءٍ عليها فعل المعاصي والآثام ، وفي الإنسان نفس أمارةٌ بالسوء كما يدل لذلك قول الله عز وجل فيما حكاه عن امرأة العزيز { وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [يوسف:53] إن النفس لأمارة بالسوء : أي تأمر صاحبها بكل سوءٍ وتدعوه إلى المهالك وتهديه إلى كل قبيح ، هذه طبيعتها وهذه سجيتها ، إلا من وفقه الله وثبته وأعانه فسلِم منها ، ولهذا جاء في الآية {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} أي فنجا من غوائل نفسه وشرورها ، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى : {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَـَكِنّ اللّهَ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [النور:21] وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم وأكرم خلقه {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74] وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول في خطبة الحاجة ويعلِّم أصحابه أن يقولوا : ((الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا )) ، فكان عليه الصلاة والسلام يتعوَّذ بالله من شر النفس وسيئات العمل ، وذَكَر سيئات العمل بعد شر النفس لأن سيئات العمل فرعٌ عن شر النفس ، فإذا خبُثت النفس وشانت دعت صاحبها إلى الأعمال السيئة والأقوال القبيحة ودفعته إلى المهالك ، ولا يسلَم منها إلا إذا سلَّمه الله تبارك وتعالى ونجَّاه من غوائلها .
وإذا علم المسلم أن النفس بهذه الصفة وأن النفس الأمارة بالسوء هذا شأنها وهذه صفتها وأنها تدعو إلى المعاصي وتُبعد عن الطاعات وتوهِّي الإيمان وتُضعفه ؛ إذا عرف ذلك لزمه أن يجتهد في مداواة نفسه ومعالجتها ومحاسبتها ومعاتبتها ولومها حتى يسلَم من مغبَّتها وعواقبها الوخيمة ونهاياتها المردية ، وأن يكون خطام نفسه بيده لا أن يجعل الخطام للنفس ، بمعنى أن يجعل نفسه هي التي تقوده فيكون متبعاً لشهوات نفسه ومراداتها غير مبالٍ ولا مكترثٍ بما يرضي الله أو يسخطه ، ليس له همّ إلا أن يتابع شهوات نفسه وحظوظها ، فلا يزال مطيعاً لها متَّبعا لها منقاداً لطلباتها حتى توقعه في الردى والمهالك ، فتصبح نفسه الأمارة بالسوء هي القائد ويصبح هو المقود ، بينما الأصل أن يكون مجاهداً لنفسه كما قال عليه الصلاة والسلام : ((الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ)) والله يقول في القرآن الكريم : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت:69] جاهدوا فينا : أي أنفسهم .
فالنفس تحتاج إلى مجاهدة ، تحتاج إلى محاسبة ، تحتاج إلى متابعة ، أما إذا ترك الإنسان الأمر لنفسه فيما تشتهيه وفعَل كل ما تطلبه وتبتغيه فإن هذا أضرُّ شيءٍ يكون على الإنسان في دينه ودنياه ، ولا يزال متابعاً لنفسه مطيعاً لها حتى توقعه في الهلاك والردى ، والعاقل الناصح لنفسه هو من يجاهد نفسه على توقي الآثام والبعد عن المعاصي ويجاهد نفسه على فعل الأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة والأمور التي تُرضي الرب تبارك وتعالى . وأعظم معِينٍ للعبد على ذلك أن ينظر إلى الغد وهو اليوم الذي يلقى الله فيه ويقف فيه بين يدي الله ويحاسبه على ما قدَّم في هذه الحياة ، وهذا المعنى مستفاد من الآية المتقدمة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ } فإذا أخذ نفسه بهذا المأخذ وحاسبها هذه المحاسبة وذكَّرها دائماً بغدِه يوم وقوفه بين يدي الله فإنه بهذه الطريقة يتخلَّص بإذن الله تبارك وتعالى من شر نفسه ، فإذا دعته يوماً أو ساعة من الساعات إلى أمرٍ يسخط الله ويغضبه تبارك وتعالى ذكّرها بقيامها بين يدي الله ووقوفها أمام الله سبحانه وتعالى ، ذكَّرها بالحساب والجزاء والعقاب والجنة والنار ، ذكَّرها بهذه المعاني حتى تكُفّ عن دعوته إلى العصيان ، ذكَّرها بالجنة والنار ، ذكَّرها بآيات الترغيب والترهيب {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] ، يذكرها بهذه المعاني حتى ترتدع وتنزجر وتكف عما هي قادمة إليه من المعاصي والآثام ، وهذا ما يسمى عند أهل العلم بمداواة النفوس أو محاسبة النفوس .
قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه : ((حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا )) ؛ ففيه دعوة إلى محاسبة النفس ، والآثار عن السلف في هذا المعنى كثيرة ، وبعض أهل العلم المتقدمين مثل ابن أبي الدنيا والآجري وغيرهما من أهل العلم كتبوا كتباً خاصة في محاسبة النفس وجمعوا في هذا الباب آثاراً عديدة عن سلف الأمة وخيارها من الصحابة ومن اتبعهم بإحسان ، ومن ذلكم قول علي رضي الله عنه : ((ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَنُونَ - أي هناك أبناء للدنيا وهناك أبناء للآخرة - فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلا عَمَلَ )) لأن اليوم الآخر هو يوم المجازاة والمحاسبة .
ولهذا من الخير للإنسان أن يعمل بهذه الوصية المباركة العظيمة ألا وهي محاسبة النفس ، أن يحاسب هو نفسه قبل أن يحاسبه ربه يوم القيامة ، يحاسب نفسه : ينظر في أعماله ، في أخلاقه ، في آدابه ، في سلوكياته ، ينظر ثم يزنها بالموازين الصحيحة والمقاييس القويمة ، فينظر هل هي على الاستقامة أم على الخطأ ، فإذا كانت على الاستقامة حمِد الله على توفيقه وتيسيره وجاهد نفسه على الثبات على ذلك ، وإذا كان في أعماله خللٌ أو تقصيرٌ أو خطأٌ أو انحرافٌ أو زللٌ أو غير ذلك جاهد نفسه على التوبة من تقصيره وخلله وحملها على الطاعة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى .
ومحاسبة النفس في الدنيا خيرٌ للإنسان من أن يحاسَب في القيامة كما قال عمر : ((حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا )) فكون الإنسان يحاسب نفسه بنفسه في الدنيا ليصلِح الخطأ وليتجنب الزلل وليقوِّي الطاعة وصالح العمل خيرٌ له من أن يحاسَب يوم القيامة ثم يقول ولا يفيده ذلك { يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } [الزمر:56] ، فهذه الندامة والأسف والحسرات ليست تنفع شيئا ، فمن الخير للإنسان أن يُحاسب نفسه مادام في دار العمل وفي ميدان العمل .
وقد ذكر العلماء رحمهم الله في محاسبة النفس ومداواتها أن محاسبة النفس نوعان : نوعٌ قبل العمل ، ونوعٌ بعد العمل ؛ محاسبة للنفس قبل أن يعمل قبل أن يُقدِم على العمل الذي يريد أن يُقدم عليه . ونوع بعد العمل .
يتبع