الرد علي المدعين
بكفر الكتابات العلمية المعاصرة
إن الاحتجاج بأن العلوم التجريبية ـ في ظل الحضارة المادية المعاصرة ـتنطلق في معظمها من منطلقات مادية بحتة, تنكر أو تتجاهل الغيب, ولاتؤمن بالله, وأن للكثيرين من المشتغلين بالعلوم مواقف عدائية واضحة منقضية الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر, فمرده بعيد عنطبيعة العلوم الكونية, وانما يرجع ذلك الي العقائد الفاسدة التي أفرزتهاالحضارة المادية المعاصرة, والتي تحاول فرضها علي كل استنتاج علميكلي, وعلي كل رؤية شاملة للكون والحياة, في وقت حققت فيه قفزات.هائلة في مجال العلوم الكونية البحتة منها والتطبيقية, بينما تخلفالمسلمون في كل أمر من أمور الحياة بصفة عامة, وفي مجال العلوم والتقنيةبصفة خاصة, مما أدي الي انتقال القيادة الفكرية في هذه المجالات علي وجهالخصوص إلي أمم سبق للعلماء فيها أن عانوا معاناة شديدة من تسلط الكنيسةعليهم, واضطهادها لهم, ورفضها للمنهج العلمي ولكل معطياته ووقوفها حجرعثرة في وجه أي تقدم علمي, كما حدث في أوروبا في أوائل عصر النهضة.فانطلق العلماء الغربيون من منطلق العداوة للكنيسة أولا ثم لقضية الايمانبالتبعية, وداروا بالعلوم الكونية ومعطياتها في اطارها المادي فقط,وبرعوا في ذلك براعة ملحوظة, ولكنهم ضلوا السبيل وتنكبوه حينما حبسواأنفسهم في اطار المادة, ولم يتمكنوا من أدراك ما فوقها, أو منعواأنفسهم من التفكير فيه, فأصبحت الغالبية العظمي من العلوم تكتب من مفهوممادي صرف, وأنتقلت عدوي ذلك الي عالمنا المسلم أثناء مرحلة اللهث وراءاللحاق بالركب التي نعيشها وما صاحب ذلك من مركبات الشعور بالنقص, أونتيجة لدس الأعداء, وانبهار البلهاء بما حققته الحضارة المادية المعاصرةمن انتصارات في مجال العلوم البحتة والتطبيقية, وما وصلت اليه من أسبابالقوة والغلبة, وما حملته معها حركة الترجمة من غث وسمين, فأصبحتالعلوم تكتب اليوم في عالمنا المعاصر من نفس المنطلق لأنها عادة ماتدرسوتكتب وتنشر بلغات أجنبية علي نفس النمط الذي ارست قواعده الحضارةالمادية, وحتي ماينشر منها باللغة العربية, أو بغيرها من اللغاتالمحلية, لا يكاد يخرج في مجموعه عن كونه ترجمة مباشرة أو غير مباشرةللفكر الغريب الوافد بكل مافيه من تعارض واضح أحيانا مع نصوص الدين,وهنا تقتضي الأمانة اثبات ان ذلك الموقف غريب علي العلم وحقائقه ومن هناأيضا كان من واجب المسلمين اعادة التأصيل الاسلامي للمعارف العلمية أياعادة كتابة العلوم بل والمعارف المكتسبة كلها من منطلق اسلامي صحيح خاصةأن المعطيات الكلية للعلوم البحتة والتطبيقية ـ بعد وصولها الي قدر منالتكامل في هذا العصر ـ اصبحت من أقوي الأدلة علي وجود الله وعلي تفردهبالألوهية والربوبية وبكامل الأسماء و,الصفات, وأنصع الشواهد عليحقيقة الخلق وحتمية البعث وضرورة الحساب وأن العلوم الكونية كانت ولا تزالالنافذة الرئيسية التي تتصل منها الحضارة المعاصرة بالفطرة الربانية وأنالمنهج العلمي ونجاحه في الكشف عن عدد من حقائق هذا الكون متوقف علي اتساقتلك الفطرة واتصاف سننها بالاطراد والثبات.
الرد علي الادعاء بالتعارض
بين معطيات العلم والدين
إن القول بأن عددا من المعطيات الكلية للعلوم التجريبية ـ كما تصاغ فيالحضارة المادية المعاصرة ـ قد تتباين مع الأصول الاسلامية الثابتة ـ قولعلي اطلاقه غير صحيح لانه اذا جاز ذلك في بعض الاستنتاجات الجزئيةالخاطئة, أو في بعض الأوقات كما كان الحال في مطلع هذا القرن,والمعرفة بالكون جزئية متناثرة, ساذجة بسيطة, أو في الجزء المتأخر منهعندما أدت المبالغة في التخصص الي حصر العلماء في دوائر ضيقة للغاية حجبتعنهم الرؤية الكلية لمعطيات العلوم, فإنه لا يجوز:اليوم حين بلغتالمعارف بأشياء هذا الكون حدا لم تبلغه البشرية من قبل وقد أصبحتالاستنتاجات الكلية لتلك المعارف تؤكد ضرورة الإيمان بالخالق الباريءالمصور الذي ليس كمثله شيء, وعلي ضرورة التسليم بالغيب وبالوحي وبالبعثوبالحساب, فمن المعطيات الكلية للعلوم الكونية المعاصرة ما يمكن إيجازهفيما يلي: ـ
أن هذا الكون الذي نحيا فيه متناه في أبعاده مذهل في دقة بنائه, مذهل في إحكام ترابطه وانتظام حركاته.
ـ أن هذا الكون مبني علي نفس النظام من أدق دقائقه إلي أكبر وحداته.
أن هذا الكون دائم الاتساع إلي نهاية لا يستطيع العلم المكتسب إدراكها.
ـ أن هذا الكون ـ علي قدمه ـ مستحدث مخلوق, كانت له في الماضي السحيقبداية حاول العلم التجريبي قياسها, ووصل فيها الي دلالات تكاد تكونثابتة ـ لو استبعدنا الأخطاء التجريبية.
ـ ان هذا الكون عارض أي أنه لابد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية تشير إليها كل الظواهر الكونية من حولنا.
ـ ان هذا الكون المادي لا يمكن أن يكون قد أوجد نفسه بنفسه ولا يمكن لأي من مكوناته المادية أن تكون قد أوجدته.
ـ ان هذا الكون المتناهي الأبعاد. الدائم الاتساع, المحكم البناء,الدقيق الحركة والنظام الذي يدور كل ما فيه في مدارات محددة وبسرعات مذهلةمتفاوتة وثابتة لا يمكن أن يكون قد وجد بمحض المصادفة.
ـ هذه المعطيات السابقة تفضي الي حقيقة منطقية واحدة مؤداها أنه اذا كانهذا الكون الحادث لا يمكن أن يكون قد وجد بمحض المصادفة. فلابد له منموجد عظيم له من العلم والقدرة والحكمة وغير ذلك من صفات الكمال والتنزيهما لا يتوافر لشيء من خلقه بل ما يغاير صفات المخلوقات جميعا فلا تحده.حدود المكان ولا الزمان ولا قوالب المادة أو الطاقة, ولا تدركه الأبصاروهو يدرك الأبصار ولا ينسحب عليه ما يحكم خلقه من سنن وقوانين, لأنه(سبحانه وتعالي)
( ليس كمثله شيء)( الشوري:11)
ـ هذا الخالق العظيم الذي أوجد الكون بما فيه ومن فيه هو وحده الذي يملكالقدرة علي ازالته وافنائه ثم اعادة خلقه وقتما شاء وكيفما شاء:
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب, كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين.( الأنبياء: آية104)
إنما قولنا لشيء اذا أردناه أن نقول له كن فيكون( النحل:40)
ـ ان الوحدة في هذا الكون تشير الي وحدانية هذا الخالق العظيم, وحدةبناء كل من الذرة والخلية الحية والمجموعة الشمسية والمجرة وغيرها,ووحدة تأصيل العناصر كلها وردها الي أبسطها وهو غاز الايدروجين, ووحدةتواصل كل صور الطاقة, وتواصل المادة والطاقة, وتواصل المخلوقات, هذاالتواصل وتلك الوحدة التي يميزها التنوع في أزواج, وتلك الزوجية التيتنتظم كل صور المخلوقات من الأحياء والجمادات تشهد بتفرد الخالق الباريءالمصور بالوحدانية, واستعلاء هذا الخالق الواحد الأحد الفرد الصمد فوقخلقه بمقام الألوهية والربوبية الذي لا يشاركه فيه أحد ولا ينازعه عليسلطانه منازع ولا يشبهه من خلقه شيء
ـ ان العلوم التجريبية في تعاملها مع المدرك المحسوس فقط, قد استطاعت أنتتوصل الي أن بالكون غيبا قد لا يستطيع الانسان أن يشق حجبه, ولولا ذلكالغيب ما استمرت تلك العلوم في التطور والنماء, لأن أكبر الاكتشافاتالعلمية قد نمت نتيجة للبحث الدءوب عن هذا الغيب.
ـ تؤكد العلوم التجريبية أن بالأحياء سرا لا نعرف كنهه, لأننا نعلممكونات الخلية الحية, والتركيب المادي لجسد الانسان, ومع ذلك لم يستطعهذا العلم أن يصنع لنا خلية حية واحدة, أو أن يوجد لنا انسانا عن غيرالطريق الفطري لا يجاده.
ـ ان النظر في أي من زوايا هذا الكون ليؤكد حاجته ـ بمن فيه وما فيه ـ الي رعاية خالقه العظيم في كل لحظة من لحظات وجوده
ـ ان العلوم الكونية اذ تقدر أن الكون والإنسان في شكليهما الحاليين ليساأبديين, فانها ـ وعلي غير قصد منها ـ لتؤكد حقيقة الآخرة, بل وعليحتميتها, والموت يتراءي في مختلف جنبات هذا الكون في كل لحظة من لحظاتوجوده, شاملا الانسان والحيوان والنبات والجماد وأجرام السماء علي تباينهيئاتها, وتكفي في ذلك الاشارة الي ما أثبتته المشاهدة من أن الشمس تفقدمن كتلتها بالاشعاع ما يقدر بحوالي4,6 مليون طن في كل ثانية وانها اذتستمر في ذلك فلابد من أن يأتي الوقت الذي تخبو فيه جذوتها, وينطفيءأوراها, وتنتهي الحياة علي الأرض قبل ذلك, لاعتمادها في ممارسةانشطتها الحيوية علي آشعة الشمس وأن الطاقة تنتقل من الأجسام الحارة اليالأجسام الأقل حرارة بطريقة مستمرة في محاولة لتساوي درجات حرارة الأجرامالمختلفة في الكون ولابد أن تنتهي بذلك أو قبله كل صور الحياة المعروفةلنا, وليس معني ذلك أنه يمكن معرفة متي تكون نهاية هذا الوجود, لأنالآخرة قرار الهي لا يرتبط بسنن الدنيا, وإن أبقي الله تعالي لنا فيالدنيا من الظواهر والسنن ما يؤكد امكانية وقوع الآخرة, بل حتميتهاانصياعا للأمر الإلهي كن فيكون وأن الإنسان الذي يحوي جسده في المتوسط ألفمليون مليون خلية يفقد فيها في كل ثانية ما يقدر بحوالي125 مليون خليةتموت ويتخلق غيرها بحيث تتبدل جميع خلايا جسد الفرد من بني البشر مرة كلعشر سنوات تقريبا, فيما عدا الخلايا العصبية التي إذا ماتت لا تتجدد,وتكفي في ذلك أيضا الإشارة إلي أن انتقال الاليكترون من مدار إلي آخر حولنواة الذرة يتم بسرعة مذهلة دفعت بعدد من العلماء إلي الاعتقاد بأنه فناءفي مدار وخلق جديد في مدار آخر, كما تكفي الإشارة إلي ظاهرة اتساع الكونعن طريق تباعد المجرات عن بعضها البعض بسرعات مذهلة تقترب من سرعةالضوء( أي حوالي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية) وتخلق المادة فيالمسافات الجديدة الناتجة عن هذا التباعد المستمد بطريقة لايعلمها إلاالله, وتباطؤ هذا التباعد الناتج عن ظاهرة الانفجار العظيم مع الزمن ممايشير إلي حتمية تغلب الجاذبية علي عملية الدفع إلي الخارج مما يؤدي إليإعادة جمع مادة الكون ومختلف صور الطاقة فيه في جرم واحد ذي كثافة بالغةمما يجعله في حالة من عدم الاستقرار تؤدي إلي انفجاره علي هيئة شبيهةبالانفجار الأول الذي تم به خلق الكون, فيتحول هذا الجرم إلي غلالة مندخان كما تحول الجرم الأول, وتتخلق من هذا الدخان أرض غير الأرض,وسماوات غير السماوات.
كما وعد ربنا تبارك وتعالي بقوله( عز من قائل):
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين( الأنبياء: آية104)
وقوله( سبحانه):
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار( إبراهيم:48).
وتكفي في ذلك أيضا الإشارة إلي أن الذرات في جميع الأحماض الأمينيةوالجزيئات البروتينية تترتب ترتيبا يساريا في أجساد كافة الكائنات الحيةعلي اختلاف مراتبها, فإذا مامات الكائن الحي أعادت تلك الذرات ترتيبنفسها ترتيبا يمينيا بمعدلات ثابتة محددة يمكن باستخدامها تحديد لحظة وفاةالكائن الحي اذا بقيت من جسده بقية بعد مماته, ويتعجب العلماء من القدرةالتي مكنت الذرات من تلك الحركات المنضبطة بعد وفاة صاحبها وتحلل جسده!!
فهل يمكن لعاقل بعد ذلك أن يتصور أن العلوم الكونية ومعطياتها في أزهيعصور ازدهارها ـــ تتصادم مع قضية الايمان بالله, وهذه هي معطياتهاالكلية, وهي في جملتها تكاد تتطابق مع تعاليم السماء, وفي ذلك كتبالمفكر الإسلامي الكبير الأستاذ محمد فريد وجدي( يرحمه الله) في خاتمةكتابه المستقبل للإسلام ما نصه:
إن كل خطوة يخطوها البشر في سبيل الرقي العلمي, هي تقرب إلي دينناالفطري, حتي ينتهي الأمر إلي الإقرار الإجماعي بأنه الدين الحق.
ثم يضيف:.. نعم إن العالم بفضل تحرره من الوراثات والتقاليد, وإمعانهفي النقد والتمحيص, يتمشي علي غير قصد منه نحو الإسلام,بخطوات متزنةثابتة, لاتوجد قوة في الأرض ترده. عنه إلا إذا انحل عصام المدنية,وارتكست الجماعات الإنسانية عن وجهتها العلمية.
وقد بدأت بوادر هذا التحول الفكري تظهر جلية اليوم, وفي مختلف جنباتالأرض, بإقبال أعداد كبيرة من العلماء والمتخصصين وكبار المثقفينوالمفكرين علي الاسلام, إقبالا لم تعرف له الانسانية مثيلا من قبل,وأعداد هؤلاء العلماء الذين توصلوا الي الايمان بالله عن طريق النظرالمباشر في الكون, واستدلوا علي صدق خاتم رسله وأنبيائه( صلي اللهعليه وسلم) بالوقوف علي عدد من الإشارات العلمية البارقة الصادقة فيكتاب الله, هم في تزايد مستمر, وهذا واحد منهمموريس بوكاي الطبيبوالباحث الفرنسي يسجل في كتابه الإنجيل والقرآن والعلم مانصه:.. لقدأثارت هذه الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن دهشتي العميقة فيالبداية, فلم أكن أعتقد قط بإمكان اكتشاف عدد كبير ـ إلي هذا الحد ــ منالدعاوي الخاصة بموضوعات شديدة التنوع ومطابقة تماما للمعارف العلميةالحديثة, وذلك في نص دون منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا.