* أخذ البيعة :
وحين فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، تبين لأهلمكة الحق، وعلموا أن لا سبيل إلى النجاح إلا الإسلام، فأذعنوا له،واجتمعوا للبيعة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا يبايعالناس، وعمر بن الخطاب أسفل منه، يأخذ على الناس فبايعوه على السمعوالطاعة فيما استطاعوا.
وفي المدارك: روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجالأخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر قاعد أسفل منه، يبايعهن بأمره،ويبلغهن عنه، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة، خوفاً من رسولالله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها؛ لما صنعت بحمزة، فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم (أبايعكن على ألا تشركن بالله شيئا)، فبايع عمر النساءعلى ألا يشركن بالله شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولاتسرقن) فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، فإن أنا أصبت من مالههنات؟ فقال أبو سفيان: وما أصبت فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى اللهعليه وسلم وعرفها، فقال: (وإنك لهند؟) قالت: نعم، فاعف عما سلفيا نبي الله، عفا الله عنك.
فقال: (ولا يزنين). فقالت: أو تزني الحرة؟
فقال: (ولا يقتلن أولادهن). فقالت: ربيناهم صغارا، وقتلناهمكبارا، فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر فضحكعمر حتى استلقى فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (ولا يأتين ببهتان) فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق.
فقال: (ولا يعصينك في معروف) فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك.
ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول: كنا منك في غرور.
وفي الصحيح: جاءت هند بنت عتبة فقالت: يا رسول الله ما كان على ظهرالأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم علىظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يغزوا من أهل خبائك. قال: (وأيضا،والذي نفسي بيده) قالت: يا رسول ال،له إن أبا سفيان رجل مسيك فهل عليحرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ قال: (لا أره إلا بالمعروف).
* إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة وعمله فيها :
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يومًا يجدد معالمالإسلام، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى، وخلال هذه الآيام أمر أبا أسيدالخزاعي، فجدد أنصاب الحرم، وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام، ولكسر الأوثانالتي كانت حول مكة، فكسرت كلها، ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن باللهواليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره
.
* السرايا والبعوث :
1 ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بعث خالد بن الوليدإلى العزى لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة 8 ه ليهدمها وكانت بنخلة،وكانت لقريش وجميع بني كنانة وهي أعظم أصنامهم. وكان سدنتها بني شيبان،فخرج إليها خالد في ثلاثين فارسًا حتى انتهى إليها، فهدمها. ولما رجعإليها سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم (هل رأيت شيئا؟) قال :لا قال: (فإنك لم تهدمها فارجع إليها فاهدمها) فرجع خالد متغيظًا قدجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ناشرة الرأس فجعل السادن يصيحبها، فضربها خالد فجزلها باثنتين، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليهوسلم فأخبره، فقال: (نعم، تلك العزى، وقد أيست أن تعبد في بلادكمأبدا).
2 ثم بعث عمرو بن العاص في نفس الشهر إلى سواع ليهدمه وهو صنم لهذيلبرهاط، على قرابة 150 كيلوا مترا شمال شرقي مكة، فلما انتهى إليه عمرو قالله السادن: ما تريد؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنأهدمه قال: لا تقدر على ذلك قال: لم ؟ قال تمنع قال: حتى الآن أنتعلى الباطل؟ ويحك فهل يسمع أو يبصر؟ ثم دنا فكسره، وأمر أصحابه فهدموابيت خزانته فلم يجدوا فيه شيئا، ثم قال للسادن: كيف رأيت؟ قال:أسلمت لله.
3 وفي الشهر نفسه بعث سعد بن زيد بن الأشهلي في عشرين فارسًا إلى مناةوكانت بالمشلل عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم، فلما انتهى سعد إليهاقال له سادنها: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبلإليها سعد، وخرجت امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتضربصدرها، فقال لها السادن: مناة دونك بعض عصاتك. فضربها سعد فقتلها،وأقبل إلى الصنم فهدمه وكسره، ولم يجدوا في خزانته شيئًا.
4 ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى بعثه رسول الله صلى الله عليهوسلم في شوال من نفس السنة 8ه إلى بني جذيمة داعيا إلى الإسلام لا مقاتلافخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وبني سليم، فانتهىإليهم فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوايقولون: صبأنا، صبأنا. فجعل خالد يقتلهم ويأسرهم ودفع إلى كل رجل ممنكان معه أسيرًا، فأمر يومًا أن يقتل كل رجل أسيره فأبى ابن عمر وأصحابهحتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا له، فرفع صلى الله عليهوسلم يديه وقال : (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالدًا) مرتين.
وكانت بنو سليم هم الذين قتلوا أسراهم دون المهاجرين والأنصار وبعث رسولالله صلى الله عليه وسلم عليًا فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم وكان بينخالد وعبد الرحمن بن عوف كلام وشر في ذلك فبلغ النبي صلى الله عليه وسلمفقال: (مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالله لو كان أحد ذهبا، ثمأنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته).
تلك هي غزوة فتح مكة، وهي المعركة الفاصلة والفتح الأعظم الذي قضى علىكيان الوثنية قضاء باتًا، ولم يترك لبقائها مجالا ولا مبررا في ربوعالجزيرة العربية، فقد كانت عامة القبائل تنتظر ماذا يتمخض عنه العراكوالاصطدام الذي كان دائرًا بين المسلمين والوثنيين وكانت تلك القبائل تعرفجيدا أن الحرم لا يسيطر عليه إلا من كان على الحق وكان قد تأكد لديهم هذاالاعتقاد الجازم أي تأكد قبل نصف القرن حين قصد أصحاب الفيل هذا البيتفأهلكوا وجعلوا كعصف مأكول.
وكان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس بهوكلم بعضهم بعضًا، وناظره في الإسلام، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة منإظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه كثير في الإسلام، حتىإن عدد الجيش الإسلامي الذي لم يزد في الغزوات السالفة على ثلاث آلاف إذاهو يزخر في هذه الغزوة في عشرة آلاف.
وهذه الغزوة الفاصلة فتحت أعين الناس وأزالت عنها آخر الستور التي كانتتحول بينها وبين الإسلام وبهذا الفتح سيطر المسلمون على الموقف السياسيوالديني كليهما معا في طول جزيرة العرب وعرضها، فقد انتقلت إليهم الصدارةالدينية والزعامة الدنيوية.
فالطور الذي كان قد بدأ بعد صلح الحديبية لصالح المسلمين قد تم وكمل بهذاالفتح المبين، وبدأ بعد ذلك طور آخر كان لصالح المسلمين تمامًا، وكان لهمفيه السيطرة على الموقف تمامًا. ولم يبق لأقوام العرب إلا أن يفدوا إلىرسول الله صلى الله عليه وسلم فيعتنقوا الإسلام ويحملوا دعوته إلى العالم،وقد تم استعدادهم لذلك في سنتين آتيتين.
* المرحلة الثالثة :
وهي آخر مرحلة من مراحل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. تمثل النتائجالتي أثمرتها دعوته الإسلامية بعد جهاد طويل وعناء ومتاعب وقلاقل وفتنواضطرابات ومعارك وحروب دامية واجهتها طيلة بضعة وعشرين عامًا.
وكان فتح مكة هو أعظم فتح حصل عليه المسلمون في هذه الأعوام، تغير لأجلهمجرى الأيام، وتحول به جو العرب، فقد كان الفتح حدًا فاصلا بين السابقةعليه وبين ما بعده، فإن قريشًا كانت في نظر العرب حماة الدين وأنصاره،والعرب في ذلك تبع لهم، فخضوع قريش يعتبر القضاء الأخير على الدين الوثنيفي جزيرة العرب.
ويمكن أن نقسم هذه المرحلة إلى صفحتين:
1 صفحة المجاهدة والقتال.
2 صفحة تسابق الشعوب والقبائل إلى اعتناق الإسلام.
وهاتان الصفحتان متلاصقتان تناوبتا في هذه المرحلة، ووقعت كل واحدة منهماخلال الأخرى إلا أنا اخترنا في الترتيب الوضعي أن نأتي على ذكر كل منالصفحتين متميزة عن الأخرى، ونظرًا إلى صفحة القتال ألصق بما مضى، وأكثرمناسبة من الأخرى قدمناها في الترتيب.
غزوة حنين
إن فتح مكة جاء عقب ضربة خاطفة شَدَهَ لها العرب، وبوغتت القبائل المجاورةبالأمر الواقع، الذي لم يكن يمكن لها أن تدفعه، ولذلك لم تمتنع عنالاستسلام إلا بعض القبائل الشرسة القوية المتغطرسة، وفي مقدمتها بطونهوازن وثقيف، واجتمعت إليها نَصْرٌ وجُشَمٌ وسعد بن بكر وناس من بني هلالوكلها من قيس عَيْلان رأت هذه البطون من نفسها عزا وأنَفَةً أن تقابل هذاالانتصار بالخضوع، فاجتمعت إلى مالك ابن عوف النَّصْري، وقررت المسير إلىحرب المسلمين.
* مسير العدو ونزوله بأوطاس :
ولما أجمع القائد العام مالك بن عوف المسير إلى حرب المسلمين، ساق معالناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فسار حتى نزل بأوْطَاس وهو واد في دارهَوَازِن بالقرب من حُنَيْن، لكن وادي أوطاس غير وادي حنين، وحنين واد إلىجنب ذي المجَاز، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات.
* مُجَرِّب الحروب يُغَلِّط رأي القائد :
ولما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دُرَيْدُ بن الصِّمَّةِ وهو شيخكبير، ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعاً مجرباً قال دريد:بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مَجَالُ الخيل، لا حَزْنٌضَرسٌ ، ولا سَهْلٌ دَهِس، مإلى أسمع رُغَاء البعير، ونُهَاق الحمير،وبُكَاء الصبي، وثُغَاء الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناسنساءهم وأموالهم وأبناءهم، فدعا مالكاً وسأله عما حمله على ذلك، فقال:أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال: راعي ضأنواللّه، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفهورمحه، وإن كانت عليك فُضِحْتَ في أهلك ومالك، ثم سأل عن بعض البطونوالرؤساء، ثم قال: يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بَيْضَة هوازن إلى نحورالخيل شيئاً، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم، ثم الْقَ الصُّبَاةعلى متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلكوقد أحرزتَ أهلك ومالك.
ولكن مالكاً القائد العام رفض هذا الطلب قائلاً: واللّه لا أفعل، إنك قدكبرت وكبر عقلك، واللّه لتطيعني هوازن أو لأتَّكِئَنَّ على هذا السيف حتىيخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فقالوا: أطعناك.فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتْنِي:
يا ليتني فيها جَذَعْ ** أخُبُّ فيها وأضَعْ
أقود وطْفَاءَ الزَّمَعْ ** كأنها شاة صَدَعْ
* سلاح استكشاف العدو :
وجاءت إلى مالك عيون كان قد بعثهم للاستكشاف عن المسلمين، جاءت هذه العيونوقد تفرقت أوصالهم، قال: ويلكم، ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالاً بيضاعلى خيل بُلْق، والله ما تماسكنا أن أصابنا ما تري.
* سلاح استكشاف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :
ونقلت الأخبار إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمسير العدو، فبعث أباحَدْرَد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثميأتيه بخبرهم، ففعل.
* الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر مكة إلى حنين :
وفي يوم السبت السادس من شهر شوال سنة 8 ه غادر رسول اللّه صلى الله عليهوسلم مكة وكان ذلك اليوم التاسع عشر من يوم دخوله في مكة خرج في اثني عشرألفاً من المسلمين ؛ عشرة آلاف ممن كانوا خرجوا معه لفتح مكة، وألفان منأهل مكة. وأكثرهم حديثو عهد بالإسلام واستعار من صفوان بن أمية مائة درعبأداتها، واستعمل على مكة عَتَّاب بن أسيد.
ولما كان عشية جاء فارس، فقال: إني طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازنعلى بكرة آبائهم بِظُعُنِهم ونَعَمِهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسمرسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال: (تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاءاللّه)، وتطوع للحراسة تلك الليلة أنس بن أبي مَرْثَد الغَنَوي.
وفي طريقهم إلى حنين رأوا سِدْرَة عظيمة خضراء يقال لها: ذات أنْوَاط،كانت العرب تعلق عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها ويعكفون، فقال بعض أهلالجيش لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذاتأنواط. فقال: (اللّه أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قومموسي: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون، إنهاالسَّنَنُ، لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم).
وقد كان بعضهم قال نظراً إلى كثرة الجيش: لن نُغْلَبَ اليوم، وكان قد شق ذلك على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:
* الجيش الإسلامي يُباغَتْ بالرماة والمهاجمين :
انتهي الجيش الإسلامي إلى حنين، الليلة التي بين الثلاثاء والأربعاء لعشرخلون من شوال، وكان مالك بن عوف قد سبقهم، فأدخل جيشه بالليل في ذلكالوادي، وفرق كُمَنَاءه في الطرق والمداخل والشعاب والأخباء والمضايق،وأصدر إليهم أمره بأن يرشقوا المسلمين أول ما طلعوا، ثم يشدوا شدة رجلواحد.
وبالسَّحَر عبأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جيشه، وعقد الألويةوالرايات، وفرقها على الناس، وفي عَمَاية الصبح استقبل المسلمون واديحنين، وشرعوا ينحدرون فيه، وهم لا يدرون بوجود كمناء العدو في مضايق هذاالوادي، فبينا هم ينحطون إذا تمطر عليهم النبال، وإذا كتائب العدو قد شدتعليهم شدة رجل واحد، فانشمر المسلمون راجعين، لا يلوي أحد على أحد، وكانتهزيمة منكرة، حتى قال أبو سفيان بن حرب، وهو حديث عهد بالإسلام: لاتنتهي هزيمتهم دون البحر الأحمر وصرخ جَبَلَةُ أو كَلَدَةُ بنالحَنْبَل: ألا بطل السِّحْر اليوم.
وانحاز رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جهة اليمين وهو يقول:(هَلُمُّوا إلى أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد اللّه)ولم يبق معه في موقفه إلا عدد قليل من المهاجرين والأنصار. تسعة على قولابن إسحاق، واثنا عشر على قول النووي، والصحيح ما رواه أحمد والحاكم فيالمستدرك من حديث ابن مسعود، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يومحنين، فولي عنه الناس وثبت معه ثمانون رجلاًمن المهاجرين والأنصار، فكناعلى أقدامنا ولم نُوَلِّهم الدُّبُر، وروي الترمذي من حديث ابن عمر بإسنادحسن قال: لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولين، وما مع رسول اللّه صلىالله عليه وسلممائة رجل.
وحينئذ ظهرت شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا نظير لها، فقد طفق يركض بغلته قبل الكفار وهو يقول:
(أنا النبي لا كَذِبْ ** أنا ابن عبد المطلب)
بيد أن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بلجام بغلته، والعباس بركابه،يكفانها ألا تسرع، ثم نزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستنصر ربهقائلاً: (اللّهم أنزل نصرك).
* رجوع المسلمين واحتدام المعركة :
وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عمه العباس وكان جَهِيَر الصوت أنينادي الصحابة، قال العباس: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السَّمُرَة؟قال: فوالله لكأن عَطْفَتَهُم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر علىأولادها، فقالوا: يا لبيك، يا لبيك. ويذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدرعليه، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره،ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناسواقتتلوا.
وصرفت الدعوة إلى الأنصار: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، ثم قصرتالدعوة في بني الحارث بن الخزرج، وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخريكما كانوا تركوا الموقعة، وتجالد الفريقان مجالدة شديدة، ونظر رسول اللّهصلى الله عليه وسلم إلى ساحة القتال، وقد استحر واحتدم، فقال: (الآنحَمِي الوَطِيسُ). ثم أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبضة من ترابالأرض، فرمي بها في وجوه القوم وقال: (شاهت الوجوه)، فما خلق اللّهإنساناً إلا ملأعينيه تراباً من تلك القبضة، فلم يزل حَدُّهُم كَلِيلاًوأمرهم مُدْبِرًا.
* انكسار حدة العدو وهزيمته الساحقة :
وما هي إلا ساعات قلائل بعد رمي القبضة حتى انهزم العدو هزيمة منكرة، وقتلمن ثَقِيف وحدهم نحو السبعين، وحاز المسلمون ما كان مع العدو من مال وسلاحوظُعُن.
وهذا هو التطور الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله: {وَيَوْمَحُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًاوَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُممُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَىالْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَكَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} [التوبة:25، 26]
* حركة المطاردة :
ولما انهزم العدو صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى نَخْلَة، وطائفةإلى أوْطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أوطاس طائفة من المطاردينيقودهم أبو عامرالأشعري، فَتَنَاوَشَ الفريقان القتال قليلاً ، ثم انهزمجيش المشركين، وفي هذه المناوشة قتل القائد أبو عامر الأشعري.
وطاردت طائفة أخري من فرسان المسلمين فلول المشركين الذين سلكوا نخلة، فأدركت دُرَيْدَ بن الصِّمَّة فقتله ربيعة بن رُفَيْع.
وأما معظم فلول المشركين الذين لجأوا إلى الطائف، فتوجه إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بنفسه بعد أن جمع الغنائم.
* الغنائم :
وكانت الغنائم: السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرون ألفاً ، والغنمأكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، أمر رسول اللّه صلى اللهعليه وسلم بجمعها، ثم حبسها بالجِعْرَانَة، وجعل عليها مسعود بن عمروالغفاري، ولم يقسمها حتى فرغ من غزوة الطائف.
وكانت في السبي الشيماء بنت الحارث السعدية ؛ أخت رسول اللّه صلى اللهعليه وسلم من الرضاعة، فلما جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلمعرفت له نفسها، فعرفها بعلامة فأكرمها، وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، ثممنّ عليها، وردّها إلى قومها
*غزوة الطائف
وهذه الغزوة في الحقيقة امتداد لغزوة حنين، وذلك أن معظم فلول هَوَازنوثَقِيف دخلوا الطائف مع القائد العام مالك بن عوف النَّصْرِي وتحصنوابها، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من حنين وجمعالغنائم بالجعرانة، في الشهر نفسه شوال سنة 8 ه.
وقدم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة في ألف رجل، ثم سلك رسول اللهصلىالله عليه وسلم إلى الطائف، فمر في طريقه على نخلة اليمانية، ثم علىقَرْنِ المنازل، ثم على لِيَّةَ، وكان هناك حصن لمالك بن عوف فأمر بهدمه،ثم واصل سيره حتى انتهي إلى الطائف فنزل قريباً من حصنه، وعسكر هناك، وفرضالحصار على أهل الحصن.
ودام الحصار مدة غير قليلة، ففي رواية أنس عند مسلم: أن مدة حصارهم كانتأربعين يوماً، وعند أهل السير خلاف في ذلك، فقيل: عشرين يوماً، وقيل:بضعة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: خمسة عشر.
ووقعت في هذه المدة مراماة، ومقاذفات، فالمسلمون أول ما فرضوا الحصاررماهم أهل الحصن رمياً شديداً، كأنه رِجْل جراد، حتى أصيب ناس من المسلمينبجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلاً، واضطروا إلى الارتفاع عن معسكرهم إلىمسجد الطائف اليوم، فعسكروا هناك.
ونصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف، وقذف به القذائف،حتى وقعت شدخة في جدار الحصن، فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة.
ودخلوا بها إلى الجدار ليحرقوه، فأرسل عليهم العدو سكك الحديد محماةبالنار. فخرجوا من تحتها، فرموهم بالنبل وقتلوا منهم رجالاً.
وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كجزء من سياسة الحرب لإلجاء العدو إلىالاستسلام أمر بقطع الأعناب وتحريقها، فقطعها المسلمون قطعاً ذريعاً،فسألته ثقيف أن يدعها للّه والرحم، فتركها للّه والرحم.
ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهوحر، فخرج إليهم ثلاثة وعشرون رجلاً ، فيهم أبو بكرة تسور حصن الطائف،وتدلي منه ببكرة مستديرة يستقى عليها، فكناه رسول اللّه صلى الله عليهوسلم [أبا بكرة] فأعتقهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ودفع كل رجلمنهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الحصن مشقة شديدة.
ولما طال الحصار واستعصي الحصن، وأصيب المسلمون بما أصيب من رشق النبالوبسكك الحديد المحماة وكان أهل الحصن قد أعدوا فيه ما يكفيهم لحصار سنةاستشار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي فقال:هم ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك، وحينئذ عزم رسولاللّه صلى الله عليه وسلم على رفع الحصار والرحيل، فأمر عمر بن الخطابفأذن في الناس، إنا قافلون غداً إن شاء اللّه، فثقل عليهم وقالوا: نذهبولا نفتحه؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (اغدوا علىالقتال)، فغدوا فأصابهم جراح، فقال: (إنا قافلون غداً إن شاءاللّه) فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول اللّه صلى الله عليهوسلم يضحك.
ولما ارتحلوا واستقلوا قال: قولوا: (آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون).
وقيل: يا رسول اللّه، ادع على ثقيف، فقال: (اللّهم اهد ثقيفا، وائت بهم).
* قسمة الغنائم بالجِعْرَانَة :
ولما عاد رسول اللْه صلى الله عليه وسلم بعد رفع الحصار عن الطائف مكثبالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، ويتأني بها، يبتغي أن يقدم عليهوفد هوازن تائبين فيحرزوا ما فقدوا، ولكنه لم يجئه أحد، فبدأ بقسمة المال،ليسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة، فكان المؤلفة قلوبهم أول منأعطي وحظي بالأنصبة الجزلة.
أعطي أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل، فقال: ابني يزيد؟فأعطاه مثلها، فقال: ابني معاوية؟ فأعطاه مثلها، وأعطي حكيم بن حزاممائة من الإبل، ثم سأله مائة أخري، فأعطاه إياها. وأعطي صفوان بن أميةمائة من الإبل، ثم مائة ثم مائة كذا في الشفاء وأعطي الحارث بن الحارث بنكَلَدَة مائة من الإبل، وكذلك أعطي رجالا من رؤساء قريش وغيرها مائة مائةمن الإبل وأعطي آخرين خمسين خمسين وأربعين أربعين، حتى شاع في الناس أنمحمداً يعطي عطاءً، ما يخاف الفقر، فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتىاضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه فقال: (أيها الناس، ردوا علي ردائي،فو الذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ماألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً).
ثم قام إلى جنب بعيره فأخذ من سنامه وبرة، فجعلها بين إصبعه، ثم رفعها،فقال: (أيها الناس، واللّه مالى من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس،والخمس مردود عليكم).
وبعد إعطاء المؤلفة قلوبهم أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابتبإحضار الغنائم والناس، ثم فرضها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل إماأربعاً من الإبل، وإما أربعين شاة، فإن كان فارساً أخذ اثني عشر بعيراً أوعشرين ومائة شاة.
فلام بان10 فليم بان10 العب بان10 فلم بان10 العب_سيرة ألعب سيرة العب سيرة منيبرك صور بان10 العبسيرة العبسيره لعبسىرة الع ب سيرة فلام بان10 فيلم بان10