*هو الذي كف أيديهم عنكم :
ولما رأي شباب قريش الطائشون، الطامحون إلى الحرب، رغبة زعمائهم في الصلحفكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح، فقرروا أن يخرجوا ليلاً، ويتسللواإلى معسكر المسلمين، ويحدثوا أحداثاً تشعل نار الحرب، وفعلاً قد قاموابتنفيذ هذا القرار، فقد خرج سبعون أو ثمانون منهم ليلاً فهبطوا من جبلالتنعيم، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين، غير أن محمد بن مسلمة قائدالحرس اعتقلهم جميعاً.
ورغبة في الصلح أطلق سراحهم النبي صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، وفي ذلكأنزل الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْوَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْعَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]
* عثمان بن عفان سفيراً إلى قريش :
وحينئذ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث سفيراً يؤكد لدي قريشموقفه وهدفه من هذا السفر، فدعا عمر بن الخطاب ليرسله إليهم، فاعتذرقائلاً: يا رسول الله، ليس لي أحد بمكة من بني عدي بن كعب يغضب لي إنأوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت، فدعاه،وأرسله إلى قريش، وقال: أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عماراً،وادعهم إلى الإسلام، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات،فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفيفيها أحد بالإيمان.
فانطلق عثمان حتى مر على قريش بِبَلْدَح، فقالوا: أين تريد؟ فقال:بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، قالوا: قد سمعنا ماتقول، فانفذ لحاجتك، وقام إليه أبان ابن سعيد بن العاص، فرحب به ثم أسرجفرسه، فحمل عثمان على الفرس، وأجاره وأردفه حتى جاء مكة، وبلغ الرسالة إلىزعماء قريش، فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت، فرفض هذا العرض، وأبي أنيطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان :
واحتبسته قريش عندها ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم في الوضعالراهن، ويبرموا أمرهم، ثم يردوا عثمان بجواب ما جاء به من الرسالة وطالالاحتباس، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل، فقال رسول الله صلى الله عليهوسلم لما بلغته الإشاعة: (لا نبرح حتى نناجز القوم)، ثم دعا أصحابهإلى البيعة، فثاروا إليه يبايعونه على ألا يفروا، وبايعته جماعة علىالموت، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع على الموتثلاث مرات، في أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ رسول الله صلى الله عليهوسلم بيد نفسه وقال: (هذه عن عثمان). ولما تمت البيعة جاء عثمانفبايعه، ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له: جَدُّبن قَيْس.
أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البيعة تحت شجرة، وكان عمر آخذابيده، ومَعْقِل بن يَسَار آخذا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول الله صلى اللهعليه وسلم، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل الله فيها: {لَقَدْ رَضِيَاللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَالشَّجَرَةِ}الآي [الفتح: 18]
* إبرام الصلح وبنوده :
وعرفت قريش ضيق الموقف، فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو لعقد الصلح، وأكدتله ألا يكون في الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا، لا تتحدث العرب عنا أنهدخلها علينا عنوة أبداً، فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه \ قال: (قد سهللكم أمركم)، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فجاء سهيل فتكلمطويلاً، ثم اتفقا على قواعد الصلح، وهي هذه:
1. الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع من عامه، فلا يدخل مكة، وإذا كانالعام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً، معهم سلاح الراكب،السيوف في القُرُب، ولا يتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض.
2. وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض.
3. من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقدقريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً منذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلكالفريق.
4. من أتي محمداً من قريش من غير إذن وليه أي هارباً منهم رده عليهم،ومن جاء قريشاً ممن مع محمد أي هارباً منه لم يرد عليه.
ثم دعا علياً ليكتب الكتاب، فأملي عليه: (بسم الله الرحمن الرحيم)فقال سهيل: أما الرحمن فوالله لا ندري ما هو؟ ولكن اكتب: باسمكاللّهم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. ثم أملي: (هذا ماصالح عليه محمد رسول الله) فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ماصددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله فقال:(إني رسول الله وإن كذبتموني)، وأمر علياً أن يكتب: محمد بن عبدالله، ويمحو لفظ رسول الله، فأبي على أن يمحو هذا اللفظ. فمحاه صلى اللهعليه وسلم بيده، ثم تمت كتابة الصحيفة، ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهدرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب،كما قدمنا في أوائل الكتاب، فكان دخولهم في هذا العهد تأكيداً لذلك الحلفالقديم ودخلت بنو بكر في عهد قريش.
* رد أبي جندل :
وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جَنْدَل بن سهيل يَرْسُفُ في قيوده، قد خرجمن أسفل مكة حتى رمي بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال سهيل: هذا أول ماأقاضيك عليه على أن ترده فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نقضالكتاب بعد).
فقال: فوالله إذا لا أقاضيك على شيء أبداً. فقال النبي صلى الله عليهوسلم: (فأجزه لي). قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: (بلىفافعل)، قال: ما أنا بفاعل. وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه، وأخذبتلابيبه وجره ؛ ليرده إلى المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يامعشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم: (يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمنمعك من المستضعفين فرجاً ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً،وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم).
فوثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبريا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم xxx، ويدني قائم السيفمنه، يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه،ونفذت القضية.
* النَّحْر والحَلْق للحِلِّ عن العمرة :
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال: (قوموافانحروا)، فوالله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهمأحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسولالله، أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعوحالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنَه،ودعا حالقه فحلقه، فلما رأي الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلقبعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً، وكانوا نحروا البدنة عن سبعة،والبقرة عن سبعة، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملاً كان لأبي جهل،كان في أنفه بُرَةٌ من فضة، ليغيظ به المشركين، ودعا رسول الله صلى اللهعليه وسلم للمحلقين ثلاثاً بالمغفرة وللمقصرين مرة. وفي هذا السفر أنزلالله فدية الأذي لمن حلق رأسه، بالصيام، أو الصدقة، أو النسك، في شأن كعببن عُجْرَة.
* الإباء عن رد المهاجرات :
ثم جاء نسوة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليهم بالعهد الذي تم فيالحديبية، فرفض طلبهم هذا ؛ بدليل أن الكلمة التي كتبت في المعاهدة بصددهذا البند هي: (وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلارددته علينا) ، فلم تدخل النساء في العقد رأساً. وأنزل الله في ذلك:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُمُهَاجِرَات ٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}، حتى بلغ {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}[الممتحنة: 10] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقولهتعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّايُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا...} إلخ [الممتحنة: 12]، فمنأقرت بهذه الشروط قال لها: (قد بايعتك)، ثم لم يكن يردهن.
وطلق المسلمون زوجاتهم الكافرات بهذا الحكم. فطلق عمر يومئذ امرأتينكانتا له في الشرك، تزوج بإحداهما معاوية، وبالأخري صفوان بن أمية.