*أساليب شتى لمجابهة الدعوة :
ولما فرغت قريش من الحج فكرت في أساليب تقضى بها على هذه الدعوة في مهدها. وتتلخص هذه الأساليب فيما يلي:
1 السخرية والتxxxx، والاستهزاء والتكذيب والتضحيك:
قصدوا بها تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا النبي صلى اللهعليه وسلم بتهم هازلة، وشتائم سفيهة، فكانوا ينادونه بالمجنون{وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَلَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]، ويصمونه بالسحر والكذب {وَعَجِبُوا أَنجَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌكَذَّابٌ} [ص:4]،وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ملتهمة ناقمة،وعواطف منفعلة هائجة {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَبِأَبْصَار ِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُلَمَجْنُونٌ} [القلم:51]،وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابهاستهزأوا بهم وقالوا: هؤلاء جلساؤه {مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنبَيْنِنَا} [الأنعام: 53]، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللّهُبِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]،وكانوا كما قص اللهعلينا {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوايَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْإِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّهَؤُلَاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}[المطففين: 29: 33].
وقد أكثروا من السخرية والاستهزاء وزادوا من الطعن والتضحيك شيئًا فشيئًاحتى أثر ذلك في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}[الحجر:97]، ثم ثبته الله وأمره بما يذهب بهذا الضيق فقال:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْرَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر:98، 99]، وقد أخبرهمن قبل أنه يكفيه هؤلاء المستهزئين حيث قال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَالْمُسْتَهْزِئ ِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَفَسَوْفَ يَعْمَلُونَ} [الحجر: 95، 96]، وأخبره أن فعلهم هذا سوفينقلب وبالًا عليهم فقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّنقَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِيَسْتَهْزِؤُونَ} [الأنعام:10].
2 إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة:
وقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه بحيث لا يبقى لعامة الناس مجال للتدبر فيدعوته والتفكير فيها، فكانوا يقولون عن القرآن: {أَضْغَاثُأَحْلاَمٍ} [الأنبياء:5] يراها محمد بالليل ويتلوها بالنهار،ويقولون: {بَلِ افْتَرَاهُ} من عند نفسه ويقولون: {إِنَّمَايُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُوَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4] أي اشترك هووزملاؤه في اختلاقه. {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَاكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفرقان:5]
وأحيانا قالوا: إن له جنًا أو شيطانًا يتنزل عليه كما ينزل الجنوالشياطين على الكهان. قال تعالى ردًا عليهم: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْعَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍأَثِيمٍ} [الشعراء:221، 222]، أي إنها تنزل على الكذاب الفاجرالمتلطخ بالذنوب، وما جرّبتم علىّ كذبًا، وما وجدتم في فسقًا، فكيف تجعلونالقرآن من تنزيل الشيطان؟
وأحيانًا قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه مصاب بنوع من الجنون،فهو يتخيل المعانى، ثم يصوغها في كلمات بديعة رائعة كما يصوغ الشعراء، فهوشاعر وكلامه شعر. قال تعالى ردًا عليهم: {وَالشُّعَرَاءيَتَّبِع هُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍيَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}[الشعراء:225: 226] فهذه ثلاث خصائص يتصف بها الشعراء ليست واحدةمنها في النبي صلى الله عليه وسلم، فالذين اتبعوه هداة مهتدون، متقونصالحون في دينهم وخلقهم وأعمالهم وتصرفاتهم، وليست عليهم مسحة من الغوايةفي أي شأن من شئونهم، ثم النبي صلى الله عليه وسلم لا يهيم في كل واد كمايهيم الشعراء، بل هو يدعو إلى رب واحد، ودين واحد، وصراط واحد، وهو لايقول إلا ما يفعل، ولا يفعل إلا ما يقول، فأين هو من الشعر والشعراء؟وأين الشعر والشعراء منه.
هكذا كان يرد عليهم بجواب مقنع حول كل شبهة كانوا يثيرونها ضد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن والإسلام.
ومعظم شبهتهم كانت تدور حول التوحيد، ثم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم،ثم بعث الأموات ونشرهم وحشرهم يوم القيامة، وقد رد القرآن على كل شبهة منشبهاتهم حول التوحيد، بل زاد عليها زيادات أوضح بها هذه القضية من كلناحية، وبين عجز آلهتهم عجزًا لا مزيد عليه، ولعل هذا كان مثار غضبهمواستنكارهم الذي أدى إلى ما أدى إليه.
أما شبهاتهم في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم مع اعترافهم بصدقالنبي صلى الله عليه وسلم وأمانته وغاية صلاحه وتقواه، كانوا يعتقدون أنمنصب النبوة والرسالة أجل وأعظم من أن يعطى لبشر، فالبشر لا يكون رسولًا،والرسول لا يكون بشرًا حسب عقيدتهم. فلما أعلن رسول الله صلى الله عليهوسلم عن نبوته، ودعا إلى الإيمان به تحيروا وقالوا: {مَالِ هَذَاالرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}[الفرقان: 7]، وقالوا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم بشر،و {مَاأَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 19]، فقالتعالى ردًا عليهم:{قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِمُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ}، وكانوا يعرفون ويعترفون بأن موسىبشر. ورد عليهم أيضًا بأن كل قوم قالوا لرسلهم إنكارًا على رسالتهم:{إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} [إبراهيم:10]، ف{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْوَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ}[إبراهيم: 11]. فالأنبياء والرسل لا يكونون إلا بشرًا، ولا منافاةبين البشرية والرسالة.
وحيث إنهم كانوا يعترفون بأن إبراهيم و إسماعيل وموسى عليهم السلام كانوارسلًا وكانوا بشرًا، فإنهم لم يجدوا مجالًا للإصرار على شبهتهمهذه،فقالوا:ألم يجد الله لحمل رسالته إلا هذا اليتيم المسكين،ما كانالله ليترك كبار أهل مكة والطائف ويتخذ هذا المسكين رسولًا{وَقَالُوالَوْلَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِعَظِيمٍ} [الزخرف:31]، قال تعالى ردًا عليهم:{أَهُمْيَقْسِم ُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32]، يعنى أن الوحىوالرسالة رحمة من الله و{اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُرِسَالَتَهُ} [الأنعام:124].
وانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى، قالوا: إن رسل ملوك الدنيا يمشون فيموكب من الخدم والحشم، ويتمتعون بالأبهة والجلال، ويوفر لهم كل أسبابالحياة، فما بال محمد يدفع في الأسواق للقمة عيش وهو يدعى أنه رسولالله؟ {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَوَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَمَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌيَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًامَّسْحُورًا} [الفرقان:7: 8]، ورد على شبهتهم هذه بأن محمدًارسول، يعنى أن مهمته هو إبلاغ رسالة الله إلى كل صغير وكبير، وضعيف وقوى،وشريف ووضيع، وحر وعبد، فلو لبث في الأبهة والجلال والخدم والحشم والحرسوالمواكبين مثل رسل الملوك، لم يكن يصل إليه ضعفاء الناس وصغارهم حتىيستفيدوا به، وهم جمهور البشر، وإذن فاتت مصلحة الرسالة، ولم تعد لهافائدة تذكر.
أما إنكارهم البعث بعد الموت فلم يكن عندهم في ذلك إلا التعجب والاستغرابوالاستبعاد العقلي، فكانوا يقولون: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّاتُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَاالْأَوَّلُون َ} [الصافات:16، 17]،وكانوا يقولون: {ذَلِكَرَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 3] وكانوا يقولون على سبيل الاستغراب:{هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّمُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِكَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 7، 8].
وقال قائلهم:
أَموْتٌ ثم بَعْثٌ ثم حَشْرٌ ** حدِيثُ خُرَافة يا أم عمرو
وقد رد عليهم بتبصيرهم ما يجرى في الدنيا، فالظالم يموت دون أن يلقى جزاءظلمه، والمظلوم يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه، والمحسن الصالح يموت قبلأن يلقى جزاء إحسانه وصلاحه، والفاجر المسىء يموت قبل أن يعاقب على سوءعمله، فإن لم يكن بعث ولا حياة ولا جزاء بعد الموت لاستوى الفريقان، بللكان الظالم والفاجر أسعد من المظلوم والصالح، وهذا غير معقول إطلاقا.ولا يتصور من الله أن يبني نظام خلقه على مثل هذا الفساد. قال تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَتَحْكُمُونَ} [القلم:35، 36]، وقال: {أَفَنَجْعَلُالْمُسْلِ ِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [ص:28]، وقال: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّننَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءمَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
وأما الاستبعاد العقلى فقال تعالى ردًا عليه: {أَأَنتُمْ أَشَدُّخَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا} [النازعات:27]، وقال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِوَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَالْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33]، وقال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَاتَذكَّرُونَ} [الواقعة:62]، وبين ما هو معروف عقلًا وعرفًا، وهوأن الإعادة {أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]،وقال: {كَمَابَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، وقال:{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [ق: 15].
وهكذا رد على كل ما أثاروا من الشبهات ردًا مفحمًا يقنع كل ذى عقل ولب،ولكنهم كانوا مشاغبين مستكبرين يريدون عُلوا في الأرض وفرض رأيهم علىالخلق، فبقوا في طغيانهم يعمهون.
3 الحيلولة بين الناس وبين سماعهم القرآن، ومعارضته بأساطير الأولين:
كان المشركون بجنب إثارة هذه الشبهات يحولون بين الناس وبين سماعهم القرآنودعوة الإسلام بكل طريق يمكن، فكانوا يطردون الناس ويثيرون الشغب والضوضاءويتغنون ويلعبون، إذا رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يتهيأ للدعوة، أوإذا رأوه يصلى ويتلو القرآن. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَكَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْتَغْلِبُونَ} [فصلت:26] حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمكنمن تلاوة القرآن عليهم في مجامعهم ونواديهم إلا في أواخر السنة الخامسة منالنبوة، وذلك أيضًا عن طريق المفاجأة، دون أن يشعروا بقصده قبل بدايةالتلاوة.
وكان النضر بن الحارث، أحد شياطين قريش قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديثملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى اللهعليه وسلم مجلسًا للتذكير بالله والتحذير من نقمته خلفه النضر ويقول:أنا و الله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستمواسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثًا مني.
وفي رواية عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قَيْنَةً، فكان لا يسمع بأحديريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، هذاخير مما يدعوك إليه محمد، وفيه نزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنيَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}[لقمان: 6].
*الاضطهادات :
أعمل المشركون الأساليب التي ذكرناها شيئًا فشيئًا لإحباط الدعوة بعدظهورها في بداية السنة الرابعة من النبوة، ومضت على ذلك أسابيع وشهور وهممقتصرون على هذه الأساليب لا يتجاوزونها إلى طريق الاضطهاد والتعذيب،ولكنهم لما رأوا أن هذه الأساليب لم تجد نفعًا في إحباط الدعوة الإسلاميةاستشاروا فيما بينهم، فقرروا القيام بتعذيب المسلمين وفتنتهم عن دينهم،فأخذ كل رئيس يعذب من دان من قبيلته بالإسلام، وانقض كل سيد على من اختارمن عبيده طريق الإيمان.
وكان من الطبيعي أن يهرول الأذناب والأوباش خلف ساداتهم وكبرائهم،ويتحركوا حسب مرضاتهم وأهوائهم، فجروا على المسلمين ولاسيما الضعفاء منهمويلات تقشعر منها الجلود، وأخذوهم بنقمات تتفطر لسماعها القلوب.
كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وأوعدهبإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرىبه.
وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته.
ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه منعته الطعام والشراب، وأخرجته منبيته، وكان من أنعم الناس عيشًا، فتَخَشَّفَ جلده تخشف الحية.
وكان صهيب بن سنان الرومي يُعذَّب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول.
وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلًا، ثميسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر فيعنقه، وهو يقول: أحَدٌ أحَدٌ، وكان أمية يشده شدًا ثم يضربه بالعصا، ويلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع. وأشد من ذلككله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاءمكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا والله لاتزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو فيذلك: أحد،أحد، ويقول: لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها. ومر بهأبو بكر يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود، وقيل: بسبع أواق أوبخمس من الفضة، وأعتقه.
وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه،فكان المشركون وعلى رأسهم أبو جهل يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاءفيعذبونهم بحرها. ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال:(صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة)، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبوجهل سمية أم عمار في قبلها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وهيسمية بنت خياط مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم،وكانت عجوزًا كبيرة ضعيفة. وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضعالصخر الأحمر على صدره أخرى، وبغطه في الماء حتى كان يفقد وعيه. وقالواله: لا نتركك حتى تسب محمدًا، أو تقول في اللات والعزى خيرًا، فوافقهمعلى ذلك مكرهًا، وجاء باكيًا معتذرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.فأنزل الله: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْأُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}الآية [ النحل: 106].
وكان أبو فُكَيْهَةَ واسمة أفلح مولى لبني عبد الدار، وكان من الأزد.فكانوا يخرجونه في نصف النهار في حر شديد، وفي رجليه قيد من حديد،فيجردونه من الثياب، ويبطحونه في الرمضاء، ثم يضعون على ظهره صخرة حتى لايتحرك، فكان يبقى كذلك حتى لا يعقل، فلم يزل يعذب كذلك حتى هاجر إلىالحبشة الهجرة الثانية، وكانوا مرة قد ربطوا رجله بحبل، ثم جروه وألقوه فيالرمضاء وخنقوه حتى ظنوا أنه قد مات، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقهلله.
وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سِباع الخزاعية، وكان حدادًا، فلماأسلم عذبته مولاته بالنار، كانت تأتى بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهرهأو رأسه، ليكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يزيده ذلك إلا إيمانًاوتسليمًا، وكان المشركون أيضًا يعذبونه فيلوون عنقه، ويجذبون شعره، وقدألقوه على النار، ثم سحبوه عليها، فما أطفأها إلا وَدَكَ ظهره.
وكانت زِنِّيرَةُ أمَةً رومية قد أسلمت فعذبت في الله، وأصيبت في بصرهاحتى عميت، فقيل لها: أصابتك اللات والعزى، فقالت: لا والله ماأصابتني، وهذا من الله، وإن شاء كشفه، فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها،فقالت قريش: هذا بعض سحر محمد.
وأسلمت أم عُبَيْس، جارية لبني زهرة، فكان يعذبها المشركون، وبخاصة مولاهاالأسود بن عبد يغوث، وكان من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنالمستهزئين به.
وأسلمت جارية عمر بن مؤمل من بني عدى، فكان عمر بن الخطاب يعذبها وهويومئذ على الشرك فكان يضربها حتى يفتر، ثم يدعها ويقول: والله ما أدعكإلا سآمة، فتقول: كذلك يفعل بك ربك.
وممن أسلمن وعذبن من الجوارى: النهدية وابنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار.
وممن عذب من العبيد: عامر بن فُهَيْرَة، كان يعذب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول.
واشترى أبوبكر رضي الله عنه هؤلاء الإماء والعبيد رضي الله عنهم وعنهنأجمعين، فأعتقهم جميعًا. وقد عاتبه في ذلك أبوه أبو قحافة وقال: أراكتعتق رقابًا ضعافًا، فلو أعتقت رجالًا جلدًا لمنعوك. قال: إني أريدوجه الله. فأنزل الله قرآنًا مدح فيه أبا بكر، وذم أعداءه. قالتعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّاالْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:14: 16] وهو أميةبن خلف، ومن كان على شاكلته {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِييُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىإِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى}[الليل:17: 21] وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وأوذى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا. فقد أخذه نوفل بن خويلدالعدوى، وأخذ معه طلحة بن عبيد الله فشدهما في حبل واحد، ليمنعهما عنالصلاة وعن الدين فلم يجيباه، فلم يروعاه إلا وهما مطلقان يصليان؛ ولذلكسميا بالقرينين، وقيل: إنما فعل ذلك عثمان بن عبيد الله أخو طلحة بنعبيد الله رضي الله عنه.
والحاصل أنهم لم يعلموا بأحد دخل في الإسلام إلا وتصدوا له بالأذىوالنكال، وكان ذلك سهلًا ميسورًا بالنسبة لضعفاء المسلمين، ولا سيماالعبيد والإماء منهم، فلم يكن من يغضب لهم ويحميهم، بل كانت السادةوالرؤساء هم أنفسهم يقومون بالتعذيب ويغرون الأوباش، ولكن بالنسبة لمنأسلم من الكبار والأشراف كان ذلك صعبًا جدًا؛ إذ كانوا في عز ومنعة منقومهم، ولذلك قلما كان يجتريء عليهم إلا أشراف قومهم، مع شيء كبير منالحيطة والحذر.
تايم فيور timeviewer تيم فيور timeviewer - meet experts
فلام بان10 فليم بان10 العب بان10 فلم بان10 العب_سيرة ألعب سيرة العب سيرة منيبرك صور بان10 العبسيرة العبسيره لعبسىرة الع ب سيرة فلام بان10 فيلم بان10