إختر لونك المفضّل (للاعضاء فقط) |
|
![]() ![]() ![]() |
ساهم بنشر الصفحة |
![]() |
| أدوات الموضوع |
خطة خالد لمواجهة الروم
اجتمع المسلمون على خالد بعد أن مكث شهراً على اليرموك ليس بينه وبين الروم قتال واقترح خالد بعد أن آلت إليه القيادة العامة لجيش المسلمين أن يقسم الجيش إلى كراديس (فرق) كل فرقة من ألف رجل، وجعل على كل كردوس رجلاً ممن اشتهروا بالشجاعة والإقدام، أمثال القعقاع بن عمرو وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وأضرابهم. وأسند قيادة القلب إلى أبي عبيدة بن الجراح، وقيادة الميمنة إلى عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وقيادة الميسرة إلى يزيد بن أبي سفيان. وقال لأصحابه: "إن عدوكم كثير وليس تعبية أكثر في رأي العين من الكراديس".
حاول خالد بذلك أن ينسي المسلمين كثرة الروم المخيفة، وأن يظهر المسلمين في حالة تدخل الرعب والفزع في عدوهم، ولكنه لم يلبث أن سمع رجلاً يقول: "ما أكثر الروم وأقل المسلمين"؛ فغضب خالد لما سمع وصاح مغضباً: "بل ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان، والله لوددت أن الأشقر (يعني فرسه) براء من توجِّيه وأنهم أضعف في العدد"، وكان فرسه قد حفي من مشيه بالمفازة (بادية الشام).
التعبية الإيمانية
وخشي خالد أن تسري كلمة الرجل في صفوف المسلمين فتوهنهم، وتضعف مقاومتهم، فعجل بالمعركة ليشغل المسلمين بها بدلاً من أن يشغلوا عنها بالنظر في عددهم وعدد عدوهم.
لم ينس خالد أن يختار من جنوده من يتولى أمور المسلمين، فبعد أن نظم الكراديس واختار لها مهرة القواد، عين أبا الدرداء قاضياً، وأبا سفيان واعظاً، وجعل على الطلائع قباث بن أشيم، وعلى الأقباض عبد الله بن مسعود، وكان القارئ المقداد، يقول الطبري: "ومن السنة التي سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد بدر أن تقرأ سورة الجهاد عند اللقاء - وهي الأنفال - ولم يزل الناس بعد ذلك على ذلك".
وقام أبو سفيان بدوره كواعظ للمسلمين خير قيام، فقال وهو يمشي بين الكراديس: "يا معشر المسلمين، أنتم العرب وقد أصبحتم في دار العجم منقطعين عن الأهل، نائين عن أمير المؤمنين وإمداد المسلمين، وقد والله أصبحتم بإزاء كثير عدده، شديد عليكم حنقه وقد وترتموهم في أنفسهم وبلادهم ونسائهم، والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم، ولا يبلغ بكم رضوان الله غداً إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة، ألا وإنها سنة لازمة، وإن الأرض وراءكم، وبينكم وبين أمير المؤمنين وجماعة المسلمين صحاري وبراري ليس لأحد فيها معقل ولا معول إلا الصبر، ورجاء وعد الله فهو خير معول، فامتنعوا بسيوفكم وتعاونوا ولتكن هي الحصون".
ثم ذهب إلى النساء فوصاهن، ثم عاد فنادى: "يا معشر أهل الإسلام حضر ما ترون، هذا رسول الله والجنة أمامكم، والشيطان والنار خلفكم". ورجع إلى موقفه في الصف حيث كان.
وقام أبو هريرة بعد أبي سفيان فقال: "سارعوا إلى الحور العين وجوار ربكم - عز وجل - في جنات النعيم، ما أنتم إلى ربكم في موطن بأحب إليه منكم في مثل هذا الموطن، ألا وإن للصابرين فضلهم.
وقام أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة فقال: "يا عباد الله انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم فإنَّ وعد الله حق، يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب، ومدحضة للعار، فلا تبرحوا مصافَّكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدأوهم بقتال، واشرعوا الرماح واستتروا بالدرق - أي الدروع - والزموا الصمت، إلا من ذكر الله".
وكان هذا الصمت له فعل شديد على القلوب الرومية فقد هزهم هذا الصمت، فهذا الجيش يقف ساكنًا لا ينادي بكلمات الجزع، ولا يهرب ولا يفكر في الهرب وهو صامت، وكأن شيئًا لا يعنيه، وكأنهم لا يرون هذه الجموع الرومية كلها إلا كالذباب، كانت هذه خطبة أبي عبيدة في اليرموك، وانتقل بها من مكان إلى مكان ينشرها بين الناس، ثم قام معاذ بن جبل أعلم أمة محمد بالحلال والحرام وإمام العلماء يوم القيامة يقول: "يا قُرَّاءَ القرآنِ، ومستحفظو الكتاب، وأنصار الهدى، وأولياء الحق، إنَّ رحمة الله – والله - لا تُنال، وجنته لا تُدخَل بالأماني، ولا يؤتي اللهُ المغفرةَ والرحمة الواسعة إلا الصادقين المصدقين بما وعدهم الله عزَّ وجلَّ، ألم تسمعوا قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، أنتم إن شاء الله منصورون فأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين، واستحيوا من ربكم أن يراكم فرارًا من عدوكم وأنتم في قبضته ورحمته، وليس لأحد منكم ملجأ من دونه وليس فيكم متعزِّز بغير الله".
كانت هذه خطبة معاذ بن جبل قالها فى ميمنته ودار بها على الجيش يقولها ويحمس الناس.
ثم قام عمرو بن العاص؛ فقال: "يا أيها الناس، اشرعوا الرماح والزموا مراكزكم ومصافكم، فإذا حمل عليكم عدوكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فَثِبُوا في وجوههم وُثُوبَ الأسد (يعني لا تبدأوا بالهجوم إلا إذا اقتربوا منكم وصاروا قريبين جدًّا من أسنة الرماح)، فو الذي يرضَى الصدقَ ويُثيب عليه، ويمقت الكذبَ ويعاقب عليه، ويجازِي بالإحسان، لقد بلغني أن المسلمين سيفتحونها كَفْراً كَفْراً (يعني بلداً بلداً) وقصراً قصراً.. فلا يهولنَّكم جمعُهم ولا عددُهم فإنكم لو صدقتموهم الشدة لتطايروا تطاير أولاد الحجر (بعض الطيور الصغيرة عندما تهش تطير أي وهم كذلك يطيرون)، ولا يقفوا لكم ولا يثبتوا أمامكم.
سمع المسلمون هذه الكلمات فوقعت من نفوسهم موقعاً أنساهم قلتهم وكثرة عدوهم، وتطلعت قلوبهم إلى ما عند الله، وهبت عليهم من خلالها نسائم الجنة فاشتاقوا إليها، ولمح خالد في الجنود حماساً لم يره من قبل، ورأى حبهم للجهاد على النحو الذي كان يتطلع إليه منذ قدم إلى اليرموك، وتأكد أن المسلمين قد تأهبوا للمعركة بكل إمكاناتهم، فانتهز الفرصة، وأمر عكرمة والقعقاع أن ينشبا القتال، فبرز القعقاع وهو يرتجز:
يا ليتي ألقاك في الطراد .. قبل اعترام الجحفل الورَّاد .. وأنت في حلبتك الوارد
وتبعه عكرمة وهو يقول:
قد علم بهكنة الجواري أني على مكرمة أحامي
ومما قيل من الشعر في يوم اليرموك قول القعقاع بن عمرو:
ألم تَرنـا علـى اليرمـوك فُزنـا كـمــا فُـزنــا بـأيــام الـعــراق
وعـذراء المدائـن قــد فتحـنـا ومرجَ الصفرِ بالجـرد العتـاق
فتحنـا قبلهـا بُصـرى وكـانـت محرمـة الجنـاب لـدى النعـاق
قتلـنـا مــن أقــام لـنـا وفـيـنـا نهـابُـهُـمُ بـأسـيــاف رقــــاق
قتلنا الـروم حتـى مـا تسـاوى على اليرموك معروق الوراق
فضضنا جمعهم لما استجالـوا على الواقوص بالبتر الرقـاق
غـداة تهافتـوا فيهـا فصـاروا إلــى أمــرٍ يعـضّـلُ بـالــذواق
وبينما المسلمون كذلك إذ أقبل البريد من المدينة مسرعاً يتخطى الناس، ويسأل عن خالد، والناس وراءه يتبعونه ليستطلعوا منه أخبار المدينة، يبشرهم بالخير، ويخبرهم عن الأمداد.
ولما بلغ البريد خالداً سلمه الكتاب، وأخبره بوفاة أبي بكر، أسر إليه به، وأخبره بما أخبر به الجند، فسر خالد في حسن تصرف البريد وقال له: أحسنت، ووضع الكتاب في كنانته حتى لا يتطلع أحد على ما فيه فيجزع الجند، وينتشر الأمر.
وكان هذا اليوم يوماً شديد المطر، ومع ذلك تقدمت الجيوش الرومية، فتشاور المسلمون في الأمر، واجتمع مجلس شورى المسلمين وقرروا عدم بدء الحرب؛ لأن الجو غير مناسب، ولم يكن الجيش الإسلامي معتاداً على هذا المطر في أرض الصحراء بالجزيرة العربية؛ فلذلك قرروا الانتظار، ولكن إذا بدأهم الروم بالقتال ردوا عليهم، وإذا لم يبدأوهم لم يقاتلوهم في هذا الجو الصعب، وهذه حكمة من الجيش الإسلامي، وحكمة من مجلس الشورى، فليس الغرض إلقاء الجيش في التهلكة، ولكن الغرض السعي بقدر الإمكان إلى تحقيق النصر، فإن لم يكن النصر فالشهادة.
وفي هذا اليوم خرج من عند الروم قائد عظيم من قوادهم وهو (جورجه) وفي روايات اسمه (جرجه) وقيل: إن اسمه (جورج)، ولكن هذا الرجل العظيم المشهور في التاريخ الإسلامي خرج وطلب خالد بن الوليد، فخرج له خالد أمير الجيوش كلها؛ فلما اقتربا، وكل منهما رافع سيفه وماسك درعه، طلب جورجه الأمان من خالد بن الوليد؛ فأمنه خالد وخفض سيفه، فخفض الآخر سيفه، ولكن احتمى كل منهما بدرعه يخشى الخيانة من الآخر، واقترب جورجه وخالد بن الوليد في وسط الأرض، بين الجيش المسلم وبين الجيش الرومي ودار بينهما حوار عجيب:
قال جورجه: يا خالد اصدقني؛ فإن الحُرَّ لا يكذب، ولا تخدعني؛ فإن الكريم لا يخدع، هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء فأعطاكه فلا تسُلَّه على أحد إلا هزمته؟.
فقال خالد: لا لم ينزل الله علينا سيفاً من السماء.
فقال جورجه: فبم سُمِّيت سيف الله؟.
فقال خالد: إن الله بعث فينا نبيه فدعانا؛ فنفرنا عنه، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا باعده وقاتله وكذبه، فكنت ممن باعده وقاتله وكذبه، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به فتابعناه؛ فقال لي رسول الله : أنت سيف من سيوف الله سلَّه على المشركين، ودعا لي بالنصر فسميت سيف الله بذلك؛ فأنا من أشد المسلمين على المشركين بدعوة رسول الله لي بالنصر، وبتسميته لي أنني سيف من سيوف الله.. (سيف الله المسلول).
فقال جورجه: صدقتني.. ثم قال: يا خالد إلام تدعوني؟.
فقال خالد: أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله.
فقال جورجه: فمن لم يجبكم إلى ذلك؟.
قال خالد: فعليه الجزية ونمنعه.
فقال جورجه: فإن لم يعطِها؟.
قال خالد: نؤذنه بحرب ثم نقاتله.
فقال جورجه: فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم على هذا الأمر اليوم؟.
قال خالد: منزلتنا واحدة، فيما افترض الله علينا: شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا.
فقال جورجه: هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل ما لكم من الأجر والذُّخْر؟.
فقال خالد: نعم وأفضل.
فتعجب جورجه وقال: كيف يساويكم وقد سبقتموه؟.
فقال خالد: إنا دخلنا في هذا الأمر وبايعنا نبينا وهو حيّ بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتب ويرينا الآيات، وحُقَّ لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وأنكم وأنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج فمن دخل منكم في هذا الأمر بحقيقة ونية كان أفضل منا عند الله.
(هكذا يبين رسول الله في الحديث أن الذي يتمسك بدينه في هذا الزمان: زمان الصَّدِّ عن سبيل الله كالقابض على الجمر، وأجره كأجر خمسين؛ فسأله الصحابة: يا رسول الله خمسين منا أم منهم؟ فقال: بل منكم).
فيقول جورجه: بالله لقد صدقتني ولم تخدعني؟
فقال خالد: بالله لقد صدقتك.. وما بي إليك ولا لأحد منكم من حاجة وإن الله لوليُّ ما سألت عنه.
فقال جورجه: صدقتني.
ثم قلب ترسه وقال: يا خالد علِّمني الإسلام.
فأخذه خالد بن الوليد وأسرع به إلى خيمته وشنَّ عليه الماء من قِرْبَة (أي تخفف الرجل من لباسه بعض الشيء وصبَّ عليه الماء ليغتسل من كفره) فعلمه الصلاة.
كل ذلك والجيشان مصطفَّان أمام بعضهما لم يحدث بينهما قتال؛ فعلمه الصلاة فصلَّى ركعتين دخل بهما الإسلام ثم انطلق بعد ذلك يقاتل يوم اليرموك بجوار خالد طوال المعركة، حتى منَّ الله عليه بالشهادة في نهاية المعركة.. فاستشهد في هذه المعركة في آخرها وكان في أولها كافراً، فقال خالد: سبحان الله عَمِلَ قليلاً وأُجِرَ كثيراً، هذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
ولا نظن أن ذلك كان بسبب الكلمتين اللتين قالهما له خالد في البداية فقط بل كانت سيرة المسلمين في الشام محمِّسة لكثير من الناس للدخول في الإسلام، فهذا الرجل كانت تحادثه نفسه من قبل ذلك: يدخل في الإسلام أو لا يدخل، حتى حانت له فرصة وخاطب خالد بن الوليد وثَبَتَ على الإيمان، حتى إن هناك بعض الروايات تقول: إن هذا الرجل (جورجه) هو الذي أتى قبل موقعة اليرموك إلى أبي عبيدة يقول له: أرسل رجلاً إلى باهان يفاوضه، فذهب خالد بن الوليد بعد ذلك.
غلمان المسلمين يطلبون الشهادة
ثم خرج رجل من الروم يطلب المبارزة من المسلمين، فوجد المسلمون غلاماً من الأزد لا يعرفه أحد وهو دون العشرين، يجري ناحية أبي عبيدة بن الجراح ويقول له: يا أبا عبيدة إني أردت أن أشفي قلبي، وأجاهد عدوي وعدو الإسلام، وأبذل نفسي في سبيل الله تعالى لعلي أرزق بالشهادة فهل تأذن لي؟.
لم يكن من هؤلاء الرجال الذين نادى عليهم خالد بن الوليد، وهو غلام دون العشرين، ولا يعرف اسمه أحد، ولكن الله يعرفه، فقال: هل تأذن لي أن أخرج فأقاتل هذا الرجل؟.
فأذن له أبو عبيدة بن الجراح، وقال له: اخرج فخرج، وعندما همَّ بالخروج التفت إلى أبى عبيدة بن الجراح، وقال له: يا أبا عبيدة هل لك إلى رسول الله من حاجة؟، فبكى أبو عبيدة بن الجراح حتى اخْضَلَّت لحيته. وقال له: أَقْرِأ رسول الله مني السلام وأخبره أنَّا وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا.
فانطلق الغلام المجهول الذي لا يعرفه أحد ولكن الله يعرفه، كما قال عمر من قبل عندما ذكروا له فتح فارس ومن قتل من المسلمين فقالوا: قُتِلَ فلان وفلان وفلان وأخذوا يَعُدُّون له عظماء الصحابة، ثم قالوا له: وخلق كثير لا تعلمهم، فقال: وما ضرهم ألا يعلمهم عمر يكفيهم أن الله يعلمهم.
وخرج هذا الغلام لهذا الرجل البطل من أبطال الروم فخرج وهو يقول:
لابد من طعن وضرب صائب ... بكل لدن وحسام قابض
عسى أن أفوز بالمواهب ... في جنة الفـردوس والمراتـب
وانطلق وقاتل هذا الرجل الرومي حتى قتله، وأخذ فرسه وسلاحه وسلمهما إلى المسلمين وعاد من جديد وقال: هل من مبارز؟.
فخرج له ثاني فقتله، والثالث فقتله، ثم الرابع فقتله، فخرج له خامس فحقق له أمنيته، لقاء الرسول فقطع رقبته؛ فطارت رقبة الغلام على الأرض.
ثم قام أبو عبيدة فقال: أليس لهذا الرجل من رجل؟ فتحمس معاذ بن جبل، وقال: أنا له، فأمسك به أبو عبيدة بن الجراح وقال له: إلزم مكانك، سألتك بحق رسول الله أن تثبت وأن تلزم الراية فلزومك الراية أحب إليَّ من قتالك هذا الرجل.
فقال معاذ بن جبل: إذن أنزل من على فرسي، وقال: ألا يريد هذا الفرس وهذا السلاح رجل من المسلمين يقاتل به هذا الفارس؟. فتقدم له ابنه عبد الرحمن بن معاذ بن جبل، وكان حدثًا، قيل: لم يحتلم، وقيل: في أول احتلامه، كان عمره 13 أو 14 سنة، وكان عُمْر معاذ بن جبل 30 سنة في هذه الموقعة، وهذا أكبر أبنائه. فقام عبد الرحمن بن معاذ بن جبل، وقال: يا أبت إني لأرجو أن أكون فارساً أعظم غناء عن المسلمين منِّي راجلاً فأعطني الفرس، فأعطاه الفرس والسلاح، وقال: وفقني الله وإياك يا بُني، فقال عبد الرحمن: يا أبتِ إنْ أنا صبرت فلله المنّة عليَّ، وإن أنا قُتِلت فالسلام عليك، ثم همَّ بالخروج، ولكنه عاد يسأل أباه كما سأل الغلام الأزدي، فقال: يا أبتِ أليست لك حاجة عند رسول الله ؟.
فقال له معاذ بن جبل: يا بني أقرأه منِّي السلام، وقل له: جزاك الله عن أمتك خيراً.
ثم خرج عبد الرحمن بن معاذ بن جبل واقتتل مع الرومي فاختلفا ضربتين فمال الرومي؛ فطاشت ضربة عبد الرحمن وأصابت ضربة الرومي، ونزلت على رأس عبد الرحمن بن معاذ بن جبل فشجتها شجّاً عميقاً، فغطَّى الدم وجهه وظنَّ أنه يموت، وظن الرومي كذلك أنه يموت فعاد إلى أبيه، وقال: يا أبتِ قتلني الرومي، فقال معاذ بن جبل والدموع في عينيه: يا بُنيَّ وماذا تريد من الدنيا؟، فعاد ابنه مرة أخرى بالفرس إلى الرجل، ولكن سبحان الله لم تمهله ساعات أجله فسقط شهيداً من على فرسه.
فقال أبو عبيدة: فمن له منكم؟ فخرج عامر بن الطفيل الدوسي، وما هي إلا لحظات حتى كانت أمعاء الرومي مبعثرة في الأرض، وانتقم من هذا الرومي وكبَّر المسلمون في ساحة المعركة.